فصل: القسم الثّاني: ما يختصّ بالأعمال من رسومٍ وحقوقٍ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


ديوان

التّعريف

1 - الدّيوان فارسيّ معرّب، ويطلق في اللّغة على مجتمع الصّحف، وعلى الكتاب الّذي يكتب فيه أهل الجيش وأهل العطيّة، وعلى جريدة الحساب، ثمّ أطلق على الحساب، ثمّ على موضع الحساب، وفي تاج العروس‏:‏ معاني الدّيوان خمسة‏:‏ الكتبة ومحلّهم، والدّفتر، وكلّ كتابٍ، ومجموع الشّعر‏.‏

والدّيوان في الاصطلاح‏:‏ الدّفتر الّذي تثبت فيه الأسماء أوالوثائق، وما وضع لحفظ ما يتعلّق بحقوق السّلطنة ‏"‏ الدّولة ‏"‏ من الأعمال، والأموال، ومن يقوم بها من الجيوش والعمّال‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - السّجلّ‏:‏

2 - السّجلّ لغةً‏:‏ الكتاب الكبير، وفي حديث الحساب يوم القيامة‏:‏ «‏.‏‏.‏‏.‏ فتوضع السّجلّات في كفّةٍ‏.‏‏.‏‏.‏» وقيل‏:‏ السّجلّ حجر كان يكتب فيه، ثمّ سمّي كلّ ما يكتب فيه سجلّاً‏.‏

وقال القرطبيّ‏:‏ السّجلّ‏:‏ الصّكّ، وهو اسم مشتقّ من السّجالة وهي الكتابة‏.‏

واصطلاحاً‏:‏ ما يكتب متضمّناً حكم القاضي، أي ما يكتب من ادّعاءٍ، وإجابةٍ، وبيّنةٍ، وحكم القاضي‏.‏

والدّيوان قد يتضمّن السّجلّ وغيره من المحاضر، والحجج، والوثائق، ولا عكس‏.‏

ب - المحضر‏:‏

3 - المحضر لغةً‏:‏ السّجلّ، واصطلاحاً‏:‏ ما يكتب من وقائع الدّعوى دون حكمٍ‏.‏

والدّيوان يتضمّن - عادةً - المحضر وغيره من الأوراق والوثائق‏.‏

أوّل من وضع الدّيوان في الإسلام

4 - أوّل من وضع الدّيوان في الإسلام عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه‏.‏ وتفصيل ذلك في مصطلح أهل الدّيوان ‏(‏الموسوعة ج 7 / 118‏)‏‏.‏

ما يتعلّق بالدّيوان من أحكامٍ

اتّخاذ الدّيوان

5 - ذهب المالكيّة إلى أنّه يجوز للإمام أن يجعل ديواناً أي‏:‏ دفتراً يجمع فيه أسماء الجند وعطاءهم‏.‏

وقال الشّافعيّة - في المعتمد عندهم -‏:‏ إنّ وضع ديوان الجند مستحبّ كما اقتضاه كلام الشّيخين ‏"‏ النّوويّ والرّافعيّ ‏"‏، وكلام إمام الحرمين صريح فيه، وهو ظاهر كلام القاضي أبي الطّيّب في المحرّر، قال صاحب الأنوار يستحبّ أن يضع الإمام دفتراً، وإن قال بعض المتأخّرين‏:‏ إنّ الظّاهر الوجوب، لئلاّ تشتبه الأحوال ويقع الخبط والغلط‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ ينبغي للإمام أن يضع ديواناً فيه أسماء المقاتلة، وقدر أرزاقهم ضبطاً لهم، ولما قدّر لهم‏.‏

ديوان الدّولة وأقسامه

6 - ديوان الدّولة - ونحوها كالسّلطنة أو الإمارة أو لمملكة - وضع لحفظ ما يتعلّق بها من الأعمال، والأموال، ومن يقوم بها من الجيوش والعمّال‏.‏

وقسّم - في أصل وضعه - أربعة أقسامٍ‏:‏ -

القسم الأوّل‏:‏ ما يختصّ بالجيش من إثباتٍ وعطاءٍ

7 - ذكر الماورديّ وأبو يعلى أنّ الإثبات في الدّيوان معتبر بثلاثة شروطٍ‏:‏ وينظر تفصيلها في مصطلح‏:‏ ‏(‏أهل الدّيوان، ومصطلح‏:‏ عطاء‏)‏‏.‏

الإخراج أوالخروج من ديوان الجيش‏:‏

8 - إذا أراد وليّ الأمر إسقاط بعض الجيش من الدّيوان لسببٍ أوجبه، أولعذرٍ اقتضاه جاز، وإن كان لغير سببٍ لم يجز لأنّهم جيش المسلمين‏.‏

وإذا أراد بعض الجيش إخراج نفسه من الدّيوان جاز مع الاستغناء عنه، ولم يجز مع الحاجة إليه، إلاّ أن يكون معذوراً‏.‏ وإذا جرّد الجيش لقتالٍ فامتنعوا - وهم أكفاء من حاربهم - سقطت أرزاقهم، وإن ضعفوا عنهم لم تسقط‏.‏

وإذا مرض بعضهم أو جنّ ورجي زوال المرض أو الجنون ولو بعد مدّةٍ طويلةٍ أعطي وبقي اسمه في الدّيوان لئلاّ يرغب النّاس عن الجهاد ويشتغلوا بالكسب، فإنّهم لا يأمنون هذه العوارض باتّفاق الشّافعيّة والحنابلة‏.‏

وإن لم يرج زوال المرض أو الجنون، فقال الحنابلة‏:‏ يخرج من الدّيوان ويسقط سهمه، لأنّه في مقابل عملٍ قد عدم، وهو الأظهر عند الشّافعيّة، ويعطى الكفاية اللّائقة به، ومقابل الأظهر عندهم أنّه لا يعطى لعدم رجاء نفعه، أي‏:‏ لا يعطى من أربعة أخماس الفيء المعدّة للمقاتلة، ولكن يعطى من غيرها إن كان محتاجاً‏.‏

القسم الثّاني‏:‏ ما يختصّ بالأعمال من رسومٍ وحقوقٍ

9 - وبيانه من جوانب‏:‏

الأوّل‏:‏ تحديد العمل بما يتميّز به عن غيره، وتفصيل نواحيه الّتي تختلف أحكامها، فيجعل لكلّ بلدٍ حدّاً لا يشاركه فيه غيره، ويفصّل نواحي كلّ بلدٍ إذا اختلفت أحكامها‏.‏

الثّاني‏:‏ بيان حال البلد هل فتح عنوةً أو صلحاً وما استقرّ عليه حكم أرضه من عشرٍ أو خراجٍ، فإن كان جميعه أرض عشرٍ لم يلزم إثبات مساحاته، لأنّ العشر على الزّرع دون المساحة، ويكون ما استؤنف زرعه مرفوعاً إلى ديوان العشر لا مستخرجًا منه، ويلزم تسمية أربابه عند رفعه إلى الدّيوان، لأنّ وجوب العشر فيه معتبر بأربابه دون رقاب الأرضين، وإذا رفع الزّرع بأسماء أربابه ذكر مبلغ كيله وحال سقيه بسيحٍ ‏"‏ ماءٍ جارٍ ‏"‏ أو عملٍ، لاختلاف حكمه ليستوفى على موجبه‏.‏

وإن كان جميعه أرض خراجٍ لزم إثبات مساحاته، لأنّ الخراج على المساحة، فإن كان هذا الخراج في حكم الأجرة لم يلزم تسمية أرباب الأرضين، لأنّه لا يختلف بإسلامٍ ولا بكفرٍ، وإن كان الخراج في حكم الجزية لزم تسمية أربابهم ووصفهم بإسلامٍ أو كفرٍ، لاختلاف حكمه باختلاف أهله‏.‏ وإن كان بعضه عشراً وبعضه خراجاً فصّل في ديوان العشر ما كان منه عشراً، وفي ديوان الخراج ما كان منه خراجاً، لاختلاف الحكم فيهما، وأجري على كلّ واحدٍ منهما ما يختصّ بحكمه‏.‏

الثّالث‏:‏ بيان أحكام الأرض الخراجيّة وما استقرّ عليها من مقاسمةٍ على الزّرع أو ورقٍ ‏"‏ فضّةٍ ‏"‏ مقدّرٍ على الخراج‏.‏

الرّابع‏:‏ ذكر من في كلّ بلدٍ من أهل الذّمّة وما استقرّ عليهم في عقد الجزية، فإن كانت مختلفةً باليسار والإعسار سمّوا في الدّيوان مع ذكر عددهم، ليختبر حال يسارهم وإعسارهم، وإن لم تختلف في اليسار والإعسار جاز الاقتصار على ذكر عددهم ووجب مراعاتهم في كلّ عامٍ ليثبت من بلغ ويسقط من مات أو أسلم، لينحصر بذلك ما يستحقّ من جزيتهم‏.‏

الخامس‏:‏ ذكر أجناس المعادن في البلد - إن كان من بلدان المعادن - وعدد كلّ جنسٍ، ليستوفى حقّ المعدن منها‏.‏

السّادس‏:‏ إن كان البلد ثغرًا يتاخم دار الحرب وكانت أموال الكفّار قد دخلت دار الإسلام معشورةً عن صلحٍ استقرّ معهم وأثبت في ديوان عقد صلحهم وقدّر المأخوذ منهم من عشرٍ، أو خمسٍ، أو زيادةٍ، أو نقصانٍ، فإن كان يختلف باختلاف الأمتعة، والأموال فصّلت فيه، وكان الدّيوان موضوعًا لإخراج رسومه، ولاستيفاء ما يرفع إليه من مقادير الأمتعة المحمولة إليه‏.‏

القسم الثّالث‏:‏ ما يختصّ بالعمّال من تقليدٍ وعزلٍ

10 - وبيانه فيما يلي‏:‏

الأوّل‏:‏ ذكر من يصحّ منه تقليد العمّال، وهو معتبر بنفوذ الأمر وجواز النّظر، وهذا يكون من أحد ثلاثةٍ‏:‏ السّلطان المستولي على كلّ الأمور، أو وزير التّفويض، أو عامل عامّ الولاية كعامل إقليمٍ أو مصرٍ عظيمٍ يقلّد في خصوص الأعمال عاملاً‏.‏

أمّا وزير التّنفيذ فلا يصحّ منه تقليد عاملٍ إلاّ بعد المطالعة والاستئمار‏.‏

الثّاني‏:‏ ذكر من يصحّ أن يتقلّد العمالة، وهو من استقلّ بكفايته ووثق بأمانته، فإن كانت عمالة تفويضٍ تفتقر إلى اجتهادٍ روعي فيها الحرّيّة والإسلام، وإن كانت عمالة تنفيذٍ لا اجتهاد للعامل فيها، لم يفتقر إلى الحرّيّة والإسلام‏.‏

الثّالث‏:‏ ذكر العمل الّذي يتقلّده، وهذا يعتبر فيه ثلاثة شروطٍ‏:‏

أ - تحديد النّاحية بما تتميّز به عن غيرها‏.‏

ب - تعيين العمل الّذي يختصّ بنظره فيها من جبايةٍ أو خراجٍ أو عشرٍ‏.‏

ج - العلم برسوم العمل وحقوقه على تفصيلٍ ينفي عنه الجهالة‏.‏

فإذا استكملت هذه الشّروط في عملٍ علم به المولّي والمولّى صحّ التّقليد ونفذ‏.‏

الرّابع‏:‏ بيان زمان النّظر، ولا يخلو من ثلاثة أحوالٍ‏:‏

أ - أن يقدّر بمدّةٍ محصورةٍ، فيكون التّقدير بهذه المدّة مجوّزاً للنّظر فيها، ومانعاً من النّظر بعد انقضائها، ولا يكون النّظر في المدّة المقدّرة لازمًا من جهة المولّي، وله صرفه والاستبدال به إن رأى ذلك صلاحاً‏.‏

ب - أن يقدر بالعمل، فيقول المولّي‏:‏ قلّدتك خراج ناحية كذا في هذه السّنة، أو قلّدتك صدقات بلد كذا في هذا العام، فتكون مدّة نظره مقدّرةً بفراغه عن عمله، فإذا فرغ انعزل عنه، وهو قبل فراغه يجوز أن يعزله المولّي، وعزله لنفسه معتبر بصحّة جاريه وفساده‏.‏

ج - أن يكون التّقليد مطلقاً فلا يقدّر بمدّةٍ ولا عملٍ، فيقول المولّي مثلاً‏:‏ قلّدتك خراج الكوفة، أو أعشار البصرة، أو حماية بغداد، وهو تقليد صحيح وإن جهلت مدّته‏.‏

الخامس‏:‏ في جاري ‏(‏مقابل‏)‏ العامل على عمله، ولا يخلو من ثلاثة أحوالٍ‏:‏

أ - أن يسمّي معلوماً، فيستحقّ المسمّى إذا وفّى العمالة حقّها، فإن قصّر فيها روعي تقصيره، وإن زاد في العمل روعيت الزّيادة‏.‏

ب - أن يسمّي مجهولاً، فيستحقّ جاري مثله فيما عمل، فإن كان جاري العمل مقدّراً في الدّيوان، وعمل به جماعة من العمّال، صار ذلك القدر هو جاري المثل، وإن لم يعمل به إلاّ واحدًا لم يصر ذلك مألوفاً في جاري المثل‏.‏

ج - أن لا يسمّى بمجهولٍ ولا بمعلومٍ، وفيما يستحقّه خلاف‏:‏ قال الماورديّ‏:‏ اختلف الفقهاء في استحقاقه الجاري مثله على عمله على أربعة مذاهب قالها الشّافعيّ وأصحابه‏.‏ فمذهب الشّافعيّ أنّه لا جاري له على عمله ويكون متطوّعاً به حتّى يسمّي جارياً معلوماً أو مجهولاً لخلوّ عمله من عوضٍ‏.‏

وقال المزنيّ‏:‏ له جاري مثله وإن لم يسمّه، لاستيفاء عمله عن إذنه‏.‏

وقال ابن سريجٍ‏:‏ إن كان مشهوراً بأخذ الجاري على عمله فله جاري مثله، وإن لم يشهر بأخذ الجاري عليه فلا جاري له‏.‏

وقال المروزيّ من أصحاب الشّافعيّ‏:‏ إن دعي إلى العمل في الابتداء، أو أمر به، فله جاري مثله، فإن ابتدأ بالطّلب فأذن له في العمل فلا جاري له‏.‏

ولخّص أبو يعلى رأي الحنابلة فقال‏:‏ قياس المذهب أنّه إن كان مشهوراً بأخذ الجاري على عمله فله جاري مثله، وإن لم يشتهر بأخذ الجاري عليه فلا جاري له، وهو موافق لقول ابن سريجٍ من الشّافعيّة‏.‏

وقال الماورديّ وأبو يعلى‏:‏ إذا كان في عمله مال يجتبى فجاريه يستحقّ فيه، وإن لم يكن فيه فجاريه في بيت المال مستحقّ من سهم المصالح‏.‏

السّادس‏:‏ فيما يصحّ به التّقليد، فإن كان نطقًا تلفّظ به المولّي صحّ به التّقليد كما تصحّ به سائر العقود، وإن كان عن توقيع المولّي بتقليده خطأً لا لفظًا صحّ التّقليد، وانعقدت به الولايات السّلطانيّة إذا اقترنت به شواهد الحال، اعتباراً بالعرف الجاري فيه، وهذا إذا كان التّقليد مقصوراً عليه لا يتعدّاه إلى استنابة غيره فيه، ولا يصحّ إن كان عامّاً متعدّياً‏.‏

كاتب الدّيوان

11 - كاتب الدّيوان هو صاحب ذمامه‏.‏

والمعتبر في صحّة ولايته شرطان‏:‏ العدالة، والكفاية‏.‏

أمّا العدالة‏:‏ فلأنّه مؤتمن على حقّ بيت المال والرّعيّة، فاقتضى أن يكون في العدالة والأمانة على صفة المؤتمنين‏.‏

وأمّا الكفاية‏:‏ فلأنّه مباشر لعملٍ يقتضي أن يكون في القيام به مستقلًّا بكفاية المباشرين‏.‏ فإذا صحّ تقليد الكاتب فالّذي ندب له ستّة أشياء‏:‏

أولاً - حفظ القوانين على الرّسوم العادلة من غير زيادةٍ تتحيّف بها الرّعيّة أو نقصانٍ ينثلم به حقّ بيت المال‏.‏

ثانياً - استيفاء الحقوق ممّن وجبت عليه من العاملين، ومن القابضين لها من العمّال‏.‏

ثالثاً - إثبات الرّفوع، وينقسم ثلاثة أقسامٍ‏.‏

أ - رفوع المساحة والعمل‏.‏‏.‏ فإن كانت أصولها مقدّرةً في الدّيوان اعتبر صحّة الرّفع بمقابلة الأصل، وأثبت في الدّيوان إن وافقها، وإن لم يكن لها في الدّيوان أصول عمل في إثباتها على قول رافعها‏.‏

ب - رفوع قبضٍ واستيفاءٍ‏.‏‏.‏ فيعمل في إثباتها على قول رافعها، لأنّه يقرّ بها على نفسه لا لها‏.‏

ج - رفوع الخراج والنّفقة‏.‏ فرافعها مدّعٍ لها فلا تقبل دعواه إلاّ بالحجج البالغة‏.‏

رابعاً - محاسبة العمّال‏.‏‏.‏ ويختلف حكمها باختلاف ما تقلّدوه، فإن كانوا من عمّال الخراج لزمهم رفع الحساب، ووجب على كاتب الدّيوان محاسبتهم على صحّة ما رفعوه، وإن كانوا من عمّال العشر لم يلزمهم على مذهب الشّافعيّ رفع الحساب، ولم يجب على كاتب الدّيوان محاسبتهم عليه، لأنّ العشر عنده صدقة لا يقف مصرفها على اجتهاد الولاة، ولو تفرّد أهلها بمصرفها أجزأت، ويلزمهم على مذهب أبي حنيفة رفع الحساب، ويجب على كاتب الدّيوان محاسبتهم عليه، لأنّ مصرف الخراج والعشر عنده مشترك‏.‏

خامساً- إخراج الأموال‏.‏‏.‏ ولا يخرج منها إلاّ ما علم صحّته، ولا يبتدئ بذلك حتّى يستدعى منه‏.‏

سادساً- تصفح الظّلامات‏.‏‏.‏ وهو مختلف بحسب اختلاف المتظلّم‏:‏

فإن كان المتظلّم من الرّعيّة تظلّم من عاملٍ تحيّفه في معاملةٍ، كان صاحب الدّيوان فيها حاكماً بينهما، وجاز له أن يتصفّح الظّلامة ويزيل التّحيّف، لأنّه مندوب لحفظ القوانين واستيفاء الحقوق، فصار بعقد الولاية مستحقّاً لتصفّح الظّلامات‏.‏

وإن كان المتظلّم عاملاً جوزف في حسابه أو غولط في معاملته، صار صاحب الدّيوان خصماً في الظّلامة، وكان المتصفّح لها وليّ الأمر‏.‏

أهل الدّيوان

12 - أهل الدّيوان هم الّذين يعطون من الدّيوان عطاءً ويأخذون منه رزقاً‏.‏

وفي بيان أصنافهم، وشروط إثباتهم في الدّيوان، والضّابط للمصارف‏.‏ تفصيل ينظر في مصطلح‏:‏ ‏(‏أهل الدّيوان‏)‏‏.‏

عقل الدّيوان عن أهله

13 - يتحمّل الدّيوان الدّية الّتي تجب بذات القتل إذا كان القاتل واحداً من أهل الدّيوان‏.‏‏.‏ على تفصيلٍ وخلافٍ ينظر في‏:‏ ‏(‏أهل الدّيوان، ودية، وعاقلة‏)‏‏.‏

ديوان القاضي

14 - هو ما فيه وثائق النّاس من المحاضر والسّجلّات وغيرها‏.‏

وأوّل ما يبدأ به القاضي إذا تقلّد أن يطلب ديوان القاضي قبله، لأنّ الدّيوان وضع ليكون حجّةً عند الحاجة، فيجعل في يد من له ولاية القضاء، ولأنّه الأساس الّذي يبني عليه القاضي حكمه، ويلزم القاضي السّابق تسليمه إلى القاضي الّذي خلفه، لأنّ الدّيوان كان في يده بحكم الولاية، وقد صارت إلى القاضي الجديد‏.‏

ولمزيدٍ من التّفصيل ينظر‏:‏ ‏(‏قضاء‏)‏‏.‏

ديوان الرّسائل

15 - استحدث هذا الدّيوان عندما ضعفت اللّغة، وفسدت الألسن، فاحتاج أولو الأمر إلى من يكتب الكتب عنهم بألفاظٍ بليغةٍ مؤثّرةٍ تفي بالمراد‏.‏

ذات عرقٍ

التّعريف

1 - ذات عِرْقٍ بكسر العين المهملة وإسكان الرّاء بعدها قاف، ميقات أهل العراق ومن يمرّ بها من أهل الآفاق، وهي على مرحلتين من مكّة‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

2 - يتّصل بذات عرقٍ ألفاظ وهي‏:‏ جميع المواقيت المعروفة، وإحرام‏.‏

وتفصيل ذلك في‏:‏ ‏(‏إحرام، وحجّ، وميقات‏)‏‏.‏

الحكم الإجماليّ ومواطن البحث

3 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ ذات عرقٍ ميقات لأهل العراق ومن يمرّ به من أهل الآفاق‏.‏ كما لا خلاف بينهم في أنّ الإحرام منها واجب على كلّ من مرّ بها من أهلها أو من غيرهم، قاصدًا مكّة لأداء أحد النّسكين ‏"‏ الحجّ والعمرة ‏"‏ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «هنّ لهنّ ولمن أتى عليهنّ من غيرهنّ ممّن أراد الحجّ والعمرة»‏.‏

وأمّا من قصد مكّة لغير ذلك ففيه خلاف يرجع إليه في ‏(‏إحرام‏)‏‏.‏

ولا خلاف بين الفقهاء أيضاً في أنّ المواقيت الأربعة وهي ذو الحليفة والجحفة، وقرن المنازل ويلملم، ثابت توقيتها بالنّصّ‏.‏

وأمّا ذات عرقٍ، ففي ثبوت كونها ميقاتاً بالنّصّ أو بالاجتهاد خلاف‏.‏

فصحّح الحنفيّة والحطّاب من المالكيّة وجمهور الشّافعيّة والحنابلة أنّه ثابت بالنّصّ، وهو قول عطاء بن أبي رباحٍ من السّلف‏.‏

وذكر مالك في المدوّنة، والشّافعيّ في الأمّ أنّ توقيتها ثابت بالاجتهاد، أي باجتهاد عمر رضي الله عنه، وهو قول طاووسٍ وابن سيرين احتجّ القائلون بثبوته بالنّصّ بأحاديث منها، ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي الزّبير أنّه سمع «جابر بن عبد اللّه رضي الله عنهما، يسأل عن المهلّ فقال‏:‏ سمعت - أحسبه رفع إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم - فقال‏:‏ مهلّ أهل المدينة من ذي الحليفة والطّريق الآخر الجحفة، ومهلّ أهل العراق من ذات عرقٍ، ومهلّ أهل نجدٍ من قرنٍ، ومهلّ أهل اليمن من يلملم»‏.‏

ومنها ما ورد عن عائشة رضي الله عنها «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقّت لأهل العراق ذات عرقٍ»‏.‏ قالوا‏:‏ والأحاديث الدّالّة على ذلك وإن كانت أسانيد مفرداتها ضعيفةً، فمجموعها يقوّي بعضه بعضها، ويصير الحديث حسناً، ويحتجّ به، ويحمل تحديد عمر رضي الله عنه باجتهاده على أنّه لم يبلغه تحديد النّبيّ صلى الله عليه وسلم فحدّده باجتهاده، فوافق النّصّ‏.‏

واحتجّ القائلون بثبوته بالاجتهاد بما أخرجه البخاريّ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏

«لمّا فتح هذان المصران ‏"‏ أي البصرة والكوفة ‏"‏ أتوا عمر فقالوا‏:‏ يا أمير المؤمنين إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حدّ لأهل نجدٍ قرناً وهو جَوْر ‏"‏ أي ميل ‏"‏ عن طريقنا، وإنّا إن أردنا قرناً شقّ علينا قال‏:‏ فانظروا حذوها من طريقكم، فحدّ لهم ذات عرقٍ»‏.‏

هذا والأحكام الخاصّة بذات عرقٍ وغيرها من المواقيت المكانيّة يذكرها الفقهاء في الحجّ ويبحث عنها أيضاً في مصطلح‏:‏ ‏(‏إحرام، وميقات‏)‏‏.‏

ذؤابة

التّعريف

1 - من معاني الذّؤابة في اللّغة‏:‏ الضّفيرة من الشّعر إذا كانت مرسلةً، وطرف العمامة، والجمع الذّؤابات والذّوائب‏.‏ ويستعمل الفقهاء الذّؤابة بهذين المعنيين‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - العقيصة‏:‏

2 - العقيصة هي الضّفيرة من الشّعر إذا كانت ملويّةً‏.‏

وتختلف العقيصة عن الذّؤابة في أنّ الذّؤابة هي الضّفيرة من الشّعر إذا كانت مرسلةً‏.‏

ب - الضّفيرة والضّميرة والغديرة‏:‏

3 - قال النّوويّ نقلاً عن الأزهريّ‏:‏ الضّفائر والضّمائر والغدائر هي الذّوائب إذا أدخل بعضها في بعضٍ نسجاً‏.‏

ج - العذبة‏:‏

4 - قال القسطلّانيّ‏:‏ العذبة الطّرف، كعذبة السّوط واللّسان أي‏:‏ طرفهما‏.‏

فالطّرف الأعلى يسمّى عذبة من حيث اللّغة، وإن كان مخالفاً للاصطلاح العرفيّ الآن‏.‏ والذّؤابة شرعاً‏:‏ هي طرف العمامة المرسل على العنق فأسفل، ولا فرق بين أن يكون المرسل الطّرف الأعلى أوالأسفل‏.‏

فالعذبة بالمعنى الاصطلاحيّ والذّؤابة لفظان مترادفان بمعنىً واحدٍ، إذ الذّؤابة عند الفقهاء هي طرف العمامة المرخى‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالذّؤابة

أوّلاً‏:‏ بمعنى الضّفيرة

أ - جعل الشّعر ذؤابةً‏:‏

5 - اتّخاذ شعر الرّأس أفضل من إزالته، إلاّ أن يشقّ إكرامه، وينتهي لرجلٍ إلى أذنيه، أو إلى منكبيه كشعره صلى الله عليه وسلم ولا بأس بزيادةٍ على المنكبين وجعله ذؤابةً‏.‏

فقد روى التّرمذيّ عن أمّ هانئٍ بنت أبي طالبٍ «قالت‏:‏ قدم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مكّة قدمةً وله أربع غدائر»‏.‏

قال صاحب المرقاة‏:‏ الغدائر جمع غديرةٍ بمعنى ضفيرةٍ، ويقال لها ذؤابة أيضاً‏.‏

ب - نقض الذّوائب عند الغسل‏:‏

6 - يرى جمهور الفقهاء أنّه ليس على المرأة أن تنقض ضفائرها وتبلَّ ذوائبها عند الغسل إذا بلغ الماء أصول شعرها، لحديث «أمّ سلمة رضي الله عنها قالت‏:‏ قلت يا رسول اللّه‏:‏ إنّي امرأة أشدّ ضفر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة ‏؟‏ قال‏:‏ لا، إنّما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثياتٍ ثمّ تفيضين عليك الماء فتطهرين»، وفي روايةٍ‏:‏ «أفأنقضه للحيضة والجنابة فقال‏:‏ لا» ولأنّ في النّقض عليها حرجاً، وفي الحلق مثلةً فسقط‏.‏

ويشترط المالكيّة لسقوط وجوب نقض الشّعر المضفور بجانب كون الشّعر رخواً بحيث يدخل الماء وسطه أن يكون مضفوراً بنفسه أوبخيطٍ أو خيطين‏.‏

أمّا ما ضفر من الشّعر بخيوطٍ كثيرةٍ فيجب نقضها في الوضوء،وكذا في الغسل اشتدّت أم لا، كما أنّه يجب نقض الضّفر إذا اشتدّ بنفسه في الغسل خاصّةً، وأمّا الخيط والخيطان فلا يضرّان في وضوءٍ ولا غسلٍ إلاّ أن يشتدّا‏.‏

قال الحنابلة‏:‏ تنقض المرأة شعرها لغسلها من الحيض وليس عليها نقضه من الجنابة إذا أروت أصوله، وهذا ما حكاه ابن المنذر عن الحسن وطاووسٍ‏.‏

قال مهنّا‏:‏ سألت أحمد عن المرأة تنقض شعرها إذا اغتسلت من الجنابة ‏؟‏ فقال‏:‏ لا، فقلت له‏:‏ في هذا شيء ‏؟‏ قال‏:‏ نعم - حديث أمّ سلمة‏.‏ قلت‏:‏ فتنقض شعرها من الحيض ‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قلت له‏:‏ وكيف تنقضه من الحيضة ولا تنقضه من الجنابة ‏؟‏ فقال‏:‏ حديث أسماء عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «لا تنقضه»‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ لا يختلف المذهب في أنّه لا يجب نقض الشّعر من الجنابة، وأمّا نقضه للغسل من الحيض فاختلف أصحابنا في وجوبه، فمنهم من أوجبه وهو قول الحسن وطاووسٍ لما روي «عن عائشة رضي الله عنها أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لها، إذا كانت حائضاً‏:‏ انقضي رأسك وامتشطي» ولا يكون المشط إلاّ في شعرٍ غير مضفورٍ، وفي روايةٍ‏:‏ «انقضي شعرك واغتسلي»، ولأنّ الأصل وجوب نقض الشّعر ليتحقّق وصول الماء إلى ما يجب غسله فعفي عنه في غسل الجنابة لأنّه يكثر فيشقّ ذلك فيه والحيض بخلافه فبقي على مقتضى الأصل في الوجوب، وقال بعض الحنابلة‏:‏ هذا مستحبّ غير واجبٍ، وهو قول أكثر الفقهاء‏.‏ قال ابن قدامة‏:‏ وهو الصّحيح إن شاء اللّه‏.‏

وروى الحسن عن أبي حنيفة - فيما هو مقابل للصّحيح - أنّه قال‏:‏ إنّ المرأة تسبل ذوائبها ثلاثاً مع كلّ بلّةٍ عصرة ليبلغ الماء شعب قرونها‏.‏

وقال ابن الهمام والعينيّ‏:‏ والأصحّ أنّه غير واجبٍ للحصر المذكور في الحديث‏.‏

قال النّخعيّ‏:‏ يجب نقض الضّفائر بكلّ حالٍ‏.‏

هذا، وقال جمهور الفقهاء‏:‏ ولو كان لرجلٍ شعر مضفور فهو كالمرأة في ذلك فلا يجب عليه نقض شعره إذا كان رخواً بحيث يدخل الماء وسطه‏.‏

وقال الصّدر الشّهيد من الحنفيّة‏:‏ إذا أضفر الرّجل شعره يجب إيصال الماء إلى انتهاء الشّعر قال العينيّ‏:‏ والاحتياط إيصال الماء‏.‏

ثانياً‏:‏ بمعنى طرف العمامة

أ - إرخاء الذّؤابة

7 - إرخاء الذّؤابة من السّنّة، فقد جاء في إرخاء الذّؤابة أحاديث كثيرة، منها صحيح ومنها حسن، ناصّة على فعله صلى الله عليه وسلم لإرخاء الذّؤابة لنفسه ولجماعةٍ من أصحابه وعلى أمره به‏.‏

فقد أخرج التّرمذيّ من حديث عمر رضي الله عنهما أنّه قال‏:‏ «كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا اعتمّ سدل عمامته بين كتفيه»‏.‏

وأخرج أبو داود من حديث عبد الرّحمن بن عوفٍ قال‏:‏ «عمّمني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فسدلها من بين يديّ ومن خلفي»‏.‏

قال ابن رسلان في شرح السّنن عند ذكر حديث عبد الرّحمن‏:‏ وهي الّتي صارت شعار الصّالحين المتمسّكين بالسّنّة، يعني إرسال العمامة على الصّدر‏.‏ وقال‏:‏ وفي الحديث النّهي عن العمامة المقعّطة‏.‏ قال أبو عبيدٍ‏:‏ المقعّطة‏:‏ الّتي لا ذؤابة لها ولا حنك‏.‏

قال النّوويّ‏:‏ يجوز لبس العمامة بإرسال طرفها وبغير إرساله، ولا كراهة في واحدٍ منهما، ولم يصحّ في النّهي عن ترك إرسالها شيء‏.‏

وقد استدلّ على جواز ترك العذبة ابن القيّم في الهدي بحديث جابرٍ عند مسلمٍ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم «دخل مكّة وعليه عمامة سوداء» بدون ذكر الذّؤابة، قال‏:‏ فدلّ على أنّ الذّؤابة لم يكن يرخيها دائماً بين كتفيه‏.‏

كيفيّة إرخاء الذّؤابة‏:‏

8 - لقد وردت عدّة أحاديث في كيفيّة إرخاء الذّؤابة‏:‏

فمنها ما يدلّ على إرخائها بين الكتفين كحديث ابن عمر الّذي سبق ذكره وحديث أبي موسى «إنّ جبرائيل نزل على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعليه عمامة سوداء قد أرخى ذؤابته من ورائه»‏.‏

وباستحباب إرخاء الذّؤابة بين الكتفين يقول الحنفيّة والحنابلة وأكثر الشّافعيّة وابن العربيّ من المالكيّة‏.‏

ومن الأحاديث ما يدلّ على إرخاء الذّؤابة بين يدي المعتمّ ومن خلفه كحديث عبد الرّحمن بن عوفٍ قال‏:‏ «عمّمني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فسدلها من بين يديّ ومن خلفي»‏.‏ وسئل مالك عن إرخاء العمامة بين الكتفين قال‏:‏ لم أر أحداً ممّن أدركته يرخي بين كتفيه إلاّ عامر بن عبد اللّه بن الزّبير وليس ذلك بحرامٍ ولكن يرسلها بين يديه وهو أكمل‏.‏

كما أنّ هناك أحاديث تدلّ على إرخاء الذّؤابة من الجانب الأيمن كحديث أبي إمامة قال‏:‏ «كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لا يولّي والياً حتّى يعمّمه ويرخي لها من جانبه الأيمن نحو الأذن»‏.‏

أمّا إرخاء الذّؤابة من الجانب الأيسر فقد قال الحافظ الزّين العراقيّ‏:‏ المشروع من الأيسر، ولم أر ما يدلّ على تعيين الأيمن إلاّ في حديث أبي أمامة - المذكور آنفاً - بسندٍ فيه ضعف عند الطّبرانيّ في الكبير‏.‏ وقال‏:‏ وعلى تقدير ثبوته فلعلّه كان يرخيها من الجانب الأيمن ثمّ يردّها من الجانب الأيسر‏.‏

ب - مقدار الذّؤابة‏:‏

9 - اختلف الفقهاء في مقدار الذّؤابة‏:‏ منهم من قدّر ذلك بشبرٍ، ومنهم من قال إلى وسط الظّهر ومنهم من قال إلى موضع الجلوس‏.‏

وقال بعض الحفّاظ‏:‏ أقلّ ما ورد في طول الذّؤابة أربع أصابع، وأكثر ما ورد ذراع، وبينهما شبر‏.‏ هذا وإطالة الذّؤابة كثيراً من الإسبال المنهيّ عنه‏.‏

قال النّوويّ والجمل من الشّافعيّة‏:‏ إرسال العذبة إرسالاً فاحشاً كإرسال الثّوب يحرم للخيلاء ويكره لغيره‏.‏ فقد ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «الإسبال في الإزار والقميص والعمامة، من جرّ منها شيئاً خيلاء لا ينظر اللّه إليه يوم القيامة»‏.‏

قال ابن بطّالٍ‏:‏ وإسبال العمامة المراد به إرسال العذبة زائداً على ما جرت به العادة وقد نقل القاضي عياض عن العلماء كراهة كلّ ما زاد على العادة وعلى المعتاد في اللّباس من الطّول والسّعة‏.‏ قال الصّنعانيّ‏:‏ وينبغي أن يراد بالمعتاد ما كان في عصر النّبوّة‏.‏

ذبائح

التّعريف

1 - الذّبائح جمع ذبيحةٍ - وهي الحيوان المذبوح - مأخوذة من الذَّبح - بفتح الذّال - وهو مصدر ذبح يذبح كمنع يمنع‏.‏

ويطلق الذّبح في اللّغة على الشّقّ وهو المعنى الأصليّ، ثمّ استعمل في قطع الحلقوم من باطنٍ عند النّصيل، وهذا المعنى ذكره صاحب اللّسان، والحلقوم هو مجرى النّفَس - بفتح الفاء - والمراد بالباطن مقدّم العنق، والنَّصِيل - بفتح النّون وكسر الصّاد - مفصل ما بين العنق والرّأس تحت اللّحيين‏.‏

وللذّبح في الاصطلاح ثلاثة معانٍ‏:‏

الأوّل‏:‏ القطع في الحلق، وهو ما بين اللّبّة واللّحيين من العنق ‏"‏ واللَّبّة ‏"‏ بفتح اللّام هي الثّغرة بين التّرقوتين أسفل العنق ‏"‏ واللّحيان ‏"‏ مثنّى اللَّحي بفتح اللّام وهما العظمان اللّذان يلتقيان في الذّقن، وتنبت عليهما الأسنان السّفلى‏.‏

والفقهاء يريدون هذا المعنى حين يقولون مثلاً‏:‏ ‏"‏ يستحبّ في الغنم ونحوها الذّبح ‏"‏ أي أن تقطع في حلقها لا في لبتّها‏.‏

الثّاني‏:‏ القطع في الحلق أو اللّبّة وهذا أعمّ من الأوّل لشموله القطع في اللّبّة، والفقهاء يريدون هذا المعنى حينما يقولون‏:‏ إنّ الحياة المستقرّة هي ما فوق حركة المذبوح وهي الحركة الشّديدة الّتي يتحرّكها الحيوان حينما يقارب الموت بعد القطع، سواء أكان ذلك القطع في حلقه أم في لبتّه ومن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ‏}‏ فإنّه يشمل ما قطع في حلقه وما قطع في لبتّه‏.‏

الثّالث‏:‏ ما يتوصّل به إلى حلّ الحيوان سواء أكان قطعاً في الحلق أم في اللّبّة من حيوانٍ مقدورٍ عليه، أم إزهاقاً لروح الحيوان غير المقدور عليه بإصابته في أيّ موضعٍ كان من جسده بمحدّدٍ أوبجارحةٍ معلّمةٍ‏.‏

وهذا المعنى أعمّ من سابقيه، وهو المراد في قول الفقهاء ‏"‏ لا تحلّ ذبيحة المشرك ‏"‏ فالمراد كلّ ما أصابه المشرك في حلقه أو لبّته إن كان مقدوراً عليه، أو في أيّ موضعٍ كان من جسده إن كان غير مقدورٍ عليه‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - النّحر‏:‏

2 - يستعمل النّحر في اللّغة اسماً ومصدراً وذلك أنّه يطلق على أعلى الصّدر وموضع القلادة منه، والصّدر كلّه، ويطلق على الطّعن في لبّة الحيوان، لأنّها مسامتة لأعلى صدره، يقال‏:‏ نحر البعير ينحره نحراً‏.‏

والنّحر في الاصطلاح الطّعن في اللّبّة أيضاً فهو مقابل للذّبح بمعناه الشّرعيّ الأوّل، ومن ذلك قول الفقهاء ‏"‏ يستحبّ في الإبل النّحر، وفي الغنم ونحوها الذّبح ‏"‏‏.‏

ب - العقر‏:‏

3 - العقر بفتح العين وسكون القاف لغةً‏:‏ ضرب قوائم البعير أو الشّاة بالسّيف وهو قائم، ثمّ اتّسع فيه العرب حتّى استعملوه في القتل والإهلاك، وربّما استعملوه في النّحر خاصّةً، لأنّ ناحر الإبل كان يضرب إحدى قوائمها ثمّ ينحرها‏.‏

وقد استعمله الفقهاء بمعنى الإصابة القاتلة للحيوان في أيّ موضعٍ كانت من بدنه إذا كان غير مقدورٍ عليه سواء أكانت بالسّهم أم بجوارح السّباع والطّير‏.‏

ج - الجرح‏:‏

4 - الجرح يطلق في اللّغة على الكسب، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ‏}‏‏.‏ وعلى التّأثير في الشّيء بالسّلاح، ويطلق في بعض كتب الفقه على معنى ‏"‏ العقر ‏"‏ المتقدّم‏.‏

د - الصّيد‏:‏

5 - الصّيد في اللّغة‏:‏ مصدر صاد الوحش أو الطّير أو السّمك، إذا أمسكها بالمصيدة أو أخذها، ويطلق على ما صيد، وعلى ما يصاد، أي ما شأنه أن يصاد لامتناعه بشدّة العدو أو الطّيران أو الغوص‏.‏

والفقهاء يستعملونه مصدراً، وبمعنى ما صيد وما يصاد أيضاً، لكنّهم حينما يستعملونه مصدراً يطلقونه تارةً على إزالة منعة ما كان ممتنعاً من الحيوانات، وتارةً على إزهاق روح الحيوان البرّيّ المتوحّش بإرسال نحو سهمٍ أو كلبٍ أو صقرٍ، فيرادف ‏"‏ العقر ‏"‏ المتقدّم، وحينما يستعملونه بمعنى ما صيد يقصدون به تارةً ما أزيلت منعته، وتارةً ما أزهقت روحه من الحيوان البرّيّ المتوحّش‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، وحينما يستعملونه بمعنى ما يصاد يريدون به الحيوان البرّيّ المتوحّش‏.‏ وتفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏صيدٍ‏)‏‏.‏

هـ - التّذكية‏:‏

6 - التّذكية في اللّغة‏:‏ مصدر ذكّيت الحيوان أي ذبحته أو نحرته، والذّكاة‏:‏ اسم المصدر‏.‏ ومعناها إتمام الشّيء والذّبح‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ هي السّبب الموصّل لحلّ أكل الحيوان البرّيّ اختياراً‏.‏

وتعرف عند الحنفيّة بأنّها السّبيل الشّرعيّة لبقاء طهارة الحيوان وحلّ أكله إن كان مأكولاً، وحلّ الانتفاع بجلده وشعره إن كان غير مأكولٍ‏.‏

أثر الذّكاة في الحيوان

7 - الحيوان نوعان مأكول وغير مأكولٍ وللذّكاة أثر في كلٍّ منهما‏.‏

أ - أثر الذّكاة في الحيوان غير المأكول‏:‏

8 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ الحيوان الّذي لا يؤكل‏:‏

أولاً - إن كان نجساً حيّاً وميّتاً كالخنزير لم يقبل الذّكاة، لأنّها إنّما تفيد بقاء الطّهر ولا تقلب النّجس طاهراً‏.‏

ثانياً - وإن كان طاهراً حيّاً وميّتاً - وهو ما ليس له نفس سائلة كالنّمل والنّحل - فلا حاجة إلى تذكيته، لأنّ طهره باقٍ‏.‏

ثالثاً - وإن كان طاهراً في الحياة نجساً بالموت كالحمار الأهليّ فهو صالح للتّذكية ولها فيه أثران‏:‏ الأوّل‏:‏ بقاء طهره ولولا التّذكية لتنجّس بالموت‏.‏

والثّاني‏:‏ حلّ الانتفاع بجلده وشعره دون حاجةٍ إلى دباغٍ‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ نجاسة، دباغ‏)‏‏.‏

وصرّح المالكيّة بأنّ الذّكاة لا تعمل في غير المأكول لكن يستحبّ ذكاة ما لا يؤكل إن أيس من حياته بمرضٍ أو عمًى بمكانٍ لا علف فيه، ولا يرجى أخذ أحدٍ له، وهذه الذّكاة ليست بالمعنى الشّرعيّ لأنّها للإراحة لا للتّطهير‏.‏

وصرّح الشّافعيّة بتحريم ذبح غير المأكول ولو لإراحةٍ، لكن لو اضطرّ إنسان لأكله، كان ذبحه أولى من سائر أنواع القتل، لأنّه أسهل لخروج الرّوح‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ لا يطهر جلد غير المأكول بالذّكاة لأنّها ذكاة غير مشروعةٍ‏.‏

ب - أثر الذّكاة في الحيوان المأكول‏:‏

9 - الحيوان المأكول إن كان سمكًا أو جرادًا فلا حاجة إلى تذكيته، لأنّ ميتتهما طاهرة حلال، لما رواه ابن عمر رضي الله عنهما‏:‏ «أحلّت لنا ميتتان ودمان، فأمّا الميتتان فالحوت والجراد، وأمّا الدّمان فالكبد والطّحال»‏.‏

ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم في البحر‏:‏ «هو الطّهور ماؤه الحلّ ميتته»‏.‏

وأمّا سائر الحيوانات البحريّة غير السّمك فعند الجمهور تؤكل ولو بغير تذكيةٍ، وعند الحنفيّة لا تؤكل أصلاً ولو ذكّيت‏.‏

وسائر ما لا نفس له سائلة يؤكل عند الجمهور ولو بلا تذكيةٍ‏.‏ ‏(‏وانظر‏:‏ أطعمة‏)‏‏.‏

وخالف المالكيّة فيما ليس له نفس سائلة فقالوا‏:‏ إنّه لا يحلّ إلاّ بالتّذكية‏.‏

وإن كان الحيوان المأكول برّيّاً ذا نفسٍ سائلةٍ فهو صالح للذّكاة‏.‏

ولها فيه ثلاثة آثارٍ‏:‏ الأوّل‏:‏ بقاء طهره، والثّاني‏:‏ حلّ الانتفاع بجلده وشعره دون دباغٍ، والثّالث‏:‏ حلّ أكله‏.‏

تقسيم الذّكاة

10 - سبق أنّ الذّكاة لها أثر في الحيوان البرّيّ الطّاهر الّذي له نفس سائلة سواء أكان مأكولاً أو غير مأكولٍ عند الجمهور‏.‏

والحيوان إمّا أن يكون مقدوراً عليه كالمستأنس من الدّوابّ والطّيور، أو غير مقدورٍ عليه كالمستوحش منها‏.‏ ولهذا كانت الذّكاة نوعين‏:‏

الأوّل‏:‏ الذّبح أو النّحر على حسب نوع الحيوان إن كان مقدوراً عليه‏.‏

الثّاني‏:‏ الصّيد بالرّمي أو بإرسال الجارحة عند امتناع الحيوان وتوحّشه بالطّيران أو العدو، وهو كالبدل عن الأوّل، إذ لم يجزه الشّارع إلاّ عند العجز عنه رحمةً بالنّاس ورعايةً لحاجاتهم‏.‏

ومن هنا انقسمت الذّكاة إلى ‏"‏ اختياريّةٍ ‏"‏وهي النّوع الأوّل ‏"‏ واضطراريّةٍ ‏"‏ وهي النّوع الثّاني‏.‏ وقد انفرد الحنفيّة بتسمية هذين النّوعين بهذين الاسمين‏.‏

وسمّى بعض الفقهاء النّوع الأوّل ذكاة المقدور عليه،والنّوع الثّاني ذكاة غير المقدور عليه‏.‏

ومضى أنّ هناك نوعاً آخر من الذّكاة هو ذكاة ما ليس له نفس سائلة عند المالكيّة، وبقي نوع يقول به بعض الفقهاء وهو ذكاة الجنين بذكاة أمّه‏.‏

فجملة الأنواع اتّفاقاً واختلافاً أربعة هي‏:‏ الذّكاة الاختياريّة، والذّكاة الاضطراريّة، وذكاة ما ليس له نفس سائلة، وذكاة الجنين تبعاً لأمّه‏.‏

النّوع الأوّل من أنواع الذّكاة

الذّكاة الاختياريّة‏:‏

أ - حقيقتها‏:‏

11 - حقيقة الذّكاة الاختياريّة الذّبح فيما يذبح وهو ما عدا الإبل من الحيوانات المقدور عليها، والنّحر فيما ينحر وهو الإبل خاصّةً، وتخصيص الذّكاة الاختياريّة بالذّبح أو النّحر واجب فلا يجوز العدول عنها في المقدور عليه بلا خلافٍ‏.‏

قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه‏:‏ «الذّكاة في الحلق واللّبّة لمن قدر، وذر الأنفس حتّى تزهق»‏.‏ وعن ابن عبّاسٍ قال‏:‏ «الذّكاة في الحلق واللّبّة»‏.‏

والمقصود بالذّكاة في كلام عمر وابن عبّاسٍ - رضي الله عنهم - ذكاة المقدور عليه، لأنّ لغير المقدور عليه صفةً أخرى ذكرت في أحاديث الصّيد‏.‏

وتخصيص الإبل بالنّحر وما عداها بالذّبح مستحبّ عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة لا واجب، ووجه استحبابه أنّ اللّه تعالى ذكر في الإبل النّحر، وفي البقر والغنم الذّبح فقال‏:‏

‏{‏فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ‏}‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً‏}‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ‏}‏‏.‏ والذّبح - بكسر الذّال - بمعنى المذبوح وهو الكبش الّذي فدي به إسماعيل عليه السلام، ولأنّ الأصل في الذّكاة إنّما هو الأسهل على الحيوان، وما فيه نوع راحةٍ له فهو أفضل، والأسهل في الإبل النّحر لخلوّ لبّتها عن اللّحم واجتماع اللّحم فيما سواها، والبقر والغنم ونحوها جميع عنقها لا يختلف‏.‏

وألحق الشّافعيّة بالإبل سائر ما طال عنقه كالإوزّ والبطّ وما قدر عليه من النّعام‏.‏

وأوجب المالكيّة النّحر في الإبل لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ‏}‏ وقاسوا على الإبل ما قدر عليه من الزّرافيّ والفيلة‏.‏

وأجازوا الذّبح والنّحر - مع أفضليّة الذّبح - في البقر لورود الذّبح فيه في قوله تعالى‏:‏

‏{‏إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً‏}‏، وأمّا النّحر فقد قيل في تعليله عندهم‏:‏ إنّ عنق البقرة لمّا كان فوق الشّاة ودون عنق البعير جاز فيها الأمران جميعاً الذّبح والنّحر، لقرب خروج الدّم من جوفها بالذّبح، والنّحر فيه أخفّ، ولم يجز الذّبح في البعير لبعد خروج الدّم من جوفها بالذّبح‏.‏

وقاسوا عليه ما قدر عليه من بقر الوحش وحمره وخيله وبغاله، وأوجبوا الذّبح فيما عدا هذه الأصناف الثّمانية‏.‏

ب - الحكمة في اشتراطها‏:‏

12 - الحكمة في اشتراط التّذكية أنّ الحرمة في الحيوان المأكول لمكان الدّم المسفوح، ولا يزول إلاّ بالذّبح أو النّحر، وأنّ الشّرع إنّما ورد بإحلال الطّيّبات خاصّةً قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ‏}‏‏.‏ ولا يطيب إلاّ بخروج الدّم وذلك بالذّبح أو النّحر، ولهذا حرّمت الميتة، لأنّ المحرّم وهو الدّم المسفوح فيها قائم، ولذا لا يطيب مع قيامه، ولهذا يفسد في أدنى مدّةٍ لا يفسد في مثلها المذبوح، وكذا المنخنقة والموقوذة والمتردّية والنّطيحة وما أكل السّبع إذا لم تدرك حيّةً، فتذبح أو تنحر‏.‏

ومن الحكمة أيضاً التّنفير عن الشّرك وأعمال المشركين، وتمييز مأكول الآدميّ عن مأكول السّباع، وأن يتذكّر الإنسان إكرام اللّه له بإباحة إزهاق روح الحيوان لأكله والانتفاع به بعد موته‏.‏

ج - تقسيم الذّكاة الاختياريّة‏:‏

13 - تنقسم الذّكاة الاختياريّة - كما علم من حقيقتها - إلى ذبحٍ ونحرٍ، ولكلٍّ منهما حقيقة وشرائط وآداب ومكروهات‏.‏

أوّلاً الذّبح‏:‏ حقيقة الذّبح‏:‏

14 - حقيقة الذّبح قطع الأوداج كلّها أو بعضها في الحلق على حسب اختلاف المذاهب‏.‏ وبيان ذلك أنّ الأوداج أربعة وهي‏:‏ الحلقوم، والمريء، والعرقان اللّذان يحيطان بهما ويسمّيان ‏"‏ الودجين ‏"‏‏.‏ فإذا فرى ذلك كلّه فقد أتى بالذّكاة بكمالها‏.‏ وإن فرى بعضاً دون بعضٍ ففيه خلاف‏.‏

فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه إذا قطع الحلقوم والمريء حلّ إذا استوعب قطعهما، لأنّ الذّبح إزالة الحياة، والحياة لا تبقى بعد قطعهما عادةً وقد تبقى بعد قطع الودجين إذ هما عرقان كسائر العروق والحياة لا تبقى بعد قطع عرقين من سائر العروق‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ إذا قطع أكثر الأوداج، وهو ثلاثة منها - أيّ ثلاثةٍ كانت - وترك واحداً حلّ، لأنّ للأكثر حكم الجميع فيما بني على التّوسعة في أصول الشّرع، والذّكاة بنيت على التّوسعة حيث يكتفى فيها ببعضٍ بلا خلافٍ بين الجمهور، وإنّما اختلفوا في الكيفيّة فيقام الأكثر فيها مقام الجميع‏.‏

وقال أبو يوسف‏:‏ لا يحلّ حتّى يقطع الحلقوم والمريء وأحد العرقين، لأنّ كلّ واحدٍ من العروق يقصد بقطعه غير ما يقصد به الآخر، إذ الحلقوم مجرى النّفس، والمريء مجرى الطّعام، والودجان مجريان للدّم، فإذا قطع أحدهما حصل بقطعه المقصود منهما، وإذا ترك الحلقوم أو المريء لم يحصل بقطع ما سواه المقصود من قطعه‏.‏

وقال محمّد‏:‏ لا يحلّ حتّى يقطع من كلّ واحدٍ من الأربعة أكثره، لأنّه إذا قطع الأكثر من كلّ واحدٍ من الأربعة، فقد حصل المقصود بالذّبح وهو خروج الدّم، لأنّه يخرج به ما يخرج بقطع الجميع‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ إذا قطع جميع الحلقوم والودجين حلّ، ولا يكفي نصف الحلقوم مع جميع الودجين على الأصحّ‏.‏

وفي روايةٍ عن أحمد يشترط قطع الأوداج الأربعة، اختارها أبو بكرٍ وابن البنّا وأبو محمّدٍ الجوزيّ وغيرهم، وحجّتهم أنّ قطع الأعضاء الأربعة مجمع عليه وقطع بعضها مختلف فيه، والأصل التّحريم فلا يعدل عنه إلاّ بيقينٍ، ويؤيّد ذلك حديث ابن عبّاسٍ وأبي هريرة‏:‏ «نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن شريطة الشّيطان» وهي الّتي تذبح فيقطع الجلد ولا تفرى الأوداج‏.‏

حكم المغلصمة‏:‏

15 - المغلصمة اسم مفعولٍ من قولهم‏:‏ غلصمه إذا قطع غلصمته‏.‏ والغلصمة هي جوزة العنق وهي رأس الحلقوم، وهي صفيحة غضروفيّة عند أصل اللّسان، سرجيّة الشّكل، مغطّاة بغشاءٍ مخاطيٍّ، وتنحدر إلى الخلف لتغطية فتحة الحنجرة لإقفالها في أثناء البلع‏.‏ والمراد بالمغلصمة عند الفقهاء الذّبيحة الّتي انحازت الجوزة فيها لجهة البدن، بأن يميل الذّابح يده إلى جهة الذّقن فلا يقطع الجوزة بل يجعلها كلّها منحازةً لجهة البدن مفصولةً عن الرّأس‏.‏

وصرّح المالكيّة في المشهور بأنّ المغلصمة لا يحلّ أكلها، وهو قول الشّافعيّة، لأنّ القطع حينئذٍ صار فوق الحلقوم، فإنّ الذّبح لم يكن في الحلقوم وإنّما كان في الرّأس‏.‏

وفي حاشية ابن عابدين من كتب الحنفيّة ما خلاصته‏:‏ صرّح في ‏"‏ الذّخيرة ‏"‏ بأنّ الذّبح إذا وقع أعلى من الحلقوم لا يحلّ، لأنّ المذبح هو الحلقوم، لكن رواية الرّستغفنيّ تخالف هذه حيث قال‏:‏ هذا قول العوّام وليس بمعتبرٍ، فتحلّ سواء بقيت العقدة ممّا يلي الرّأس أو الصّدر، لأنّ المعتبر عندنا قطع أكثر الأوداج وقد وجد‏.‏ وقد شنّع الأتقانيّ في ‏"‏ غاية البيان ‏"‏ على من شرط بقاء العقدة في الرّأس وقال‏:‏ إنّه لم يلتفت إلى العقدة في كلام اللّه تعالى ولا كلام رسوله صلى الله عليه وسلم بل الذّكاة بين اللّبّة واللّحيين، وقد حصلت، لا سيّما على قول الإمام من الاكتفاء بثلاثٍ من الأربع أيّاً كانت، ويجوز ترك الحلقوم أصلاً، فبالأولى إذا قطع من أعلاه وبقيت العقدة أسفله‏.‏

شرائط الذّبح

هي ثلاثة أنواعٍ‏:‏ شرائط في المذبوح، وشرائط في الذّابح، وشرائط في الآلة‏.‏

شرائط المذبوح

16 - يشترط لصحّة الذّبح ثلاث شرائط راجعة إلى المذبوح وهي‏:‏

أ - أن يكون حيّاً وقت الذّبح‏.‏

ب - أن يكون زهوق روحه بمحض الذّبح‏.‏

ج - ألاّ يكون صيداً حرميّاً‏.‏

وزاد بعض المذاهب شرائط أخرى منها‏:‏

د - ألاّ يكون مختصّاً بالنّحر‏.‏ وقد صرّح بذلك المالكيّة‏.‏

فجملة الشّرائط أربع‏.‏

17 - أمّا الشّريطة ‏"‏ الأولى ‏"‏ وهي كونه حيّاً وقت الذّبح فقد ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى اشتراط الحياة المستقرّة في الذّبيح قبل الذّبح إن كان هناك سبب يحال عليه الهلاك كالانخناق والتّردّي والضّرب والنّطح وأكل السّبع وخروج الأمعاء، فإن لم يوجد سبب يحال عليه الهلاك فإنّه يكفي وجود الحياة ولو كان الحيوان في آخر رمقٍ، ومثّل الشّافعيّة لذلك بما لو جاع الحيوان أو مرض إلاّ أن يكون مرضه بأكل نباتٍ مضرٍّ‏.‏

والحياة المستقرّة هي ما زادت عن حركة المذبوح سواء انتهت إلى حالٍ يعلم أنّها لا تعيش معه أو تعيش، أم لم تنته إلى هذه الحال‏.‏

وجعل الشّافعيّة علامة الحياة المستقرّة - إذا لم تعلم قبل الذّبح - أن يتحرّك الحيوان بعد الذّبح حركةً شديدةً، أو ينفجر منه الدّم‏.‏

وقريب من ذلك ما قاله أبو يوسف ومحمّد‏:‏ ‏"‏ لا يكتفى بقيام أصل الحياة بل لا بدّ من الحياة المستقرّة ‏"‏‏.‏ وروي عن أبي يوسف في بيان الاستقرار روايتان‏:‏ إحداهما أن يعلم أنّ المذبوح يعيش لو لم يذبح، والثّانية أن يكون له من الحياة مقدار ما يعيش به نصف يومٍ‏.‏ وروي عن محمّدٍ في بيان الاستقرار أن يعلم أنّه يبقى من حياة ما يراد ذبحه أكثر ممّا يبقى من حياة المذبوح‏.‏

وذكر الطّحاويّ قول محمّدٍ مفسّراً فقال‏:‏ إنّ على قول محمّدٍ إن لم يبق معه إلاّ الاضطراب للموت فذبحه فإنّه لا يحلّ، وإن كان يعيش مدّةً كاليوم أو كنصفه حلّ‏.‏

وإنّما اشترط أبو يوسف ومحمّد استقرار الحياة لأنّه إذا لم تكن للمذبوح حياة مستقرّة كان في معنى الميتة فلا تلحقه الذّكاة كالميّتة حقيقةً‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ إن لم يحدث بالحيوان ما يقتضي اليأس من بقاء حياته كفى في حلّه التّحرّك بعد الذّبح أو سيلان الدّم، وإن لم يكن كلّ منهما قويّاً‏.‏

وإن حدث به ما يقتضي اليأس من بقاء حياته كإخفاء مرضه، أو انتفاخٍ بعشبٍ، أو دقّ عنقٍ، أو سقوطٍ من شاهقٍ، أو غير ذلك حلّ بشريطتين‏:‏

ألاّ ينفذ بذلك مقتل منه قبل الذّبح، وأن يكون قويّ الحركة مع الذّبح أو بعده، أو يشخب منه الدّم بعد الذّبح أي يخرج بقوّةٍ‏.‏

ونفاذ المقتل يكون عندهم بواحدٍ من خمسة أمورٍ‏:‏

أوّلها‏:‏ قطع النّخاع، وأمّا كسر الصّلب فليس بمقتلٍ‏.‏

ثانيها‏:‏ قطع ودجٍ، وأمّا شقّه بلا قطعٍ ففيه قولان‏.‏

ثالثها‏:‏ نثر دماغٍ وهو ما تحويه الجمجمة، وأمّا شرخ الرّأس أو خرق خريطة الدّماغ بلا انتشارٍ فليس بمقتلٍ‏.‏

رابعها‏:‏ نثر حشوةٍ وهي ما حواه البطن من قلبٍ وكبدٍ وطحالٍ وكليةٍ وأمعاءٍ أي إزالة ما ذكر عن موضعه بحيث لا يمكن إعادته إلى موضعه‏.‏

خامسها‏:‏ ثقب مصيرٍ - وهو المعى ويجمع على مصرانٍ وجمع الجمع مصارين - وأمّا ثقب الكرش فليس بمقتلٍ فالبهيمة المنتفخة إذا ذبحت فوجدت مثقوبة الكرش تؤكل على المعتمد‏.‏ وذهب أبو حنيفة إلى أنّه يكفي قيام أصل الحياة قلّت أو كثرت، لأنّه إذا ذبح في هذه الحالة فقد صار مذكًّى ودخل تحت النّصّ وهو‏:‏ قوله تعالى ‏{‏إلاّ مَا ذَكَّيْتُمْ‏}‏ فإن علمت حياة المذبوح قبل الذّبح لم يشترط بعد الذّبح تحرّك ولا خروج دمٍ، وإن لم تعلم كأن كان المذبوح مريضاً أو منخنقاً أو نطيحاً أو نحو ذلك وشككنا في حياته فذبحناه فتحرّك أوخرج منه الدّم كان هذا علامةً على الحياة فيحلّ، والمراد بالحركة الحركة الّتي تدلّ على الحياة قبل الذّبح، ومنها ضمّ الفم وضمّ العين وقبض الرّجل وقيام الشّعر، بخلاف فتح الفم أو العين ومدّ الرّجل ونوم الشّعر فهي لا تدلّ على سبق الحياة، والمراد بخروج الدّم سيلانه على الهيئة الّتي يسيل بها دم الحيّ بعد ذبحه وهذا هو المختار للفتوى عند الحنفيّة‏.‏

وقيل‏:‏ الاكتفاء بأصل الحياة، وهو رواية عن أحمد اختارها ابن تيميّة، لكن ظاهر كلامه اشتراط خروج الدّم، فإنّه قال‏:‏ متى ذبح الحيوان فخرج منه الدّم الأحمر الّذي يخرج من المذكّى المذبوح في العادة ليس هو دم الميّت فإنّه يحلّ أكله وإن لم يتحرّك‏.‏

18 - وأمّا الشّريطة ‏"‏ الثّانية ‏"‏ وهي‏:‏ أن يكون زهوق روحه بمحض الذّبح‏:‏ فهي مأخوذة من قول صاحب ‏"‏ البدائع ‏"‏‏:‏ ذكر ابن سماعة في نوادره عن أبي يوسف‏:‏ لو أنّ رجلًا قطع شاةً نصفين ثمّ إنّ رجلاً فرى أوداجها والرّأس يتحرّك، أو شقّ رجل بطنها فأخرج ما في جوفها وفرى رجل آخر الأوداج فإنّ هذا لا يؤكل لأنّ الفعل الأوّل قاتل، وذكر القدوريّ أنّ هذا على وجهين‏:‏ إن كانت الضّربة ممّا يلي العجز لم تؤكل الشّاة، وإن كانت ممّا يلي الرّأس أكلت، لأنّ العروق المشروطة في الذّبح متّصلة من القلب إلى الدّماغ، فإذا كانت الضّربة ممّا يلي الرّأس فقد قطعها فحلّت، وإن كانت ممّا يلي العجز فلم يقطعها فلم تحلّ‏.‏ وصرّح المالكيّة والشّافعيّة بما يفيد اشتراط هذه الشّريطة، ومثّل له الشّافعيّة بما لو اقترن بذبح الشّاة مثلاً نزع الحشوة، أو نخس الخاصرة، أو القطع من القفا فلا تحلّ الشّاة لاجتماع مبيحٍ ومحرّمٍ فيغلّب المحرّم‏.‏

والظّاهر أنّ سائر المذاهب لا يخالف في هذه الشّريطة، لأنّها مبنيّة على قاعدةٍ لا خلاف فيها وهي تغليب المحرّم على المبيح عند اجتماعهما، بل إنّ الحنابلة زادوا على ذلك أنّه لو حدث بعد الذّبح وقبل الموت ما يعين على الهلاك حرّمت الذّبيحة، ففي ‏"‏ المقنع وحاشيته ‏"‏ من كتب الحنابلة ما خلاصته أنّه إذا ذبح الحيوان ثمّ غرق أو وطئ عليه شيء يقتله مثله ففيه روايتان عن أحمد‏:‏

إحداهما‏:‏ لا يحلّ، وهو المذهب لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عديّ بن حاتمٍ في الصّيد‏:‏ «إن وقع في الماء فلا تأكل»‏.‏

ولقول ابن مسعودٍ رضي الله عنه من رمى طائراً فوقع في ماءٍ فغرق فيه فلا يأكله‏.‏

ولأنّ الغرق سبب يقتل فإذا اجتمع ما يبيح وما يحرّم غلّب التّحريم‏.‏

والثّانية‏:‏ أنّه يحلّ، وبه قال أكثر المتأخّرين من الحنابلة، لأنّها إذا ذبحت صارت مذكّاةً حلالاً، فلا يضرّها ما يحدث لها بعد التّذكية وقبل تمام خروج الرّوح‏.‏

وهل الذّبح بآلةٍ مسمومةٍ يعتبر من قبيل اقتران محرّمٍ ومبيحٍ فتحرم الذّبيحة، أو لا يعتبر، لأنّ سريان السّمّ إنّما يكون بعد تمام الذّبح ‏؟‏‏.‏ صرّح المالكيّة والشّافعيّة بالثّاني‏.‏

وفصّل الحنابلة فقالوا‏:‏إذا غلب على ظنّه أنّ السّمّ أعان على الهلاك فالذّبيحة حرام، وإلاّفلا‏.‏

19 - وأمّا الشّريطة ‏"‏ الثّالثة ‏"‏‏:‏ - وهي ألاّ يكون المذبوح صيداً حرميّاً -‏:‏ فإنّ التّعرّض لصيد الحرم بالقتل والدّلالة والإشارة محرّم، حقّاً للّه تعالى‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ‏}‏‏.‏

وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم في صفة مكّة «فلا ينفّر صيدها»‏.‏

والفعل في المحرّم شرعاً لا يكون ذكاةً، وسواء أكان مولده الحرم أم دخل من الحلّ إليه، لأنّه يضاف إلى الحرم في الحالين، فيكون صيد الحرم، فإن ذبح صيد الحرم كان ميتةً سواء أكان الذّابح محرماً أم حلالاً‏.‏

ولزيادة التّفصيل انظر مصطلح‏:‏ ‏(‏حجّ، وحرم، وإحرام‏)‏‏.‏

20 - وأمّا الشّريطة ‏"‏ الرّابعة ‏"‏‏:‏ الّتي زادها المالكيّة - وهي ألاّ يكون المذبوح مختصّاً بالنّحر - فخلاصتها أنّ الحيوان المختصّ بالنّحر - وقد سبق اختلافهم فيه - يحرم فيه العدول عن النّحر إلى الذّبح لغير ضرورةٍ، ويصير المذبوح حينئذٍ ميتةً‏.‏ فلو كان العدول لضرورةٍ كفقد الآلة الصّالحة للنّحر، وكالوقوع في حفرةٍ، واستعصاء الحيوان لم يحرم ولم تحرم الذّبيحة‏.‏

وخالف سائر المذاهب في هذه الشّريطة، فجوّزوا العدول بكراهةٍ أو بلا كراهةٍ كما يأتي في مكروهات الذّبح‏.‏

شرائط الذّابح

21 - يشترط لصحّة الذّبح في الجملة شرائط راجعة إلى الذّابح وهي‏:‏

أ - أن يكون عاقلاً‏.‏

ب - أن يكون مسلماً أو كتابيّاً‏.‏

ج - أن يكون حلالاً إذا ذبح صيد البرّ‏.‏

د - أن يسمّي اللّه تعالى على الذّبيحة عند التّذكّر والقدرة‏.‏

هـ - ألاّ يهلّ بالذّبح لغير اللّه تعالى، وزاد المالكيّة‏:‏

و - أن يقطع من مقدّم العنق‏.‏

ز- ألاّ يرفع يده قبل تمام التّذكية‏.‏

ح - أن ينوي التّذكية‏.‏

22 - الشّريطة الأولى‏:‏ أن يكون عاقلاً سواء كان رجلاً أو امرأةً بالغاً أو غير بالغٍ إذا كان مميّزاً وهذا عند الجمهور ‏"‏ الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة، وهو قول للشّافعيّة ‏"‏‏.‏

وعلّل الحنفيّة اشتراط العقل بأنّ صحّة القصد إلى التّسمية عند الذّبح لا بدّ منها، وذلك بأن يكون الذّابح متمكّناً من قصد التّسمية، وإن لم يكن قصدها واجباً، ولا تتحقّق صحّة التّسمية ممّن لا يعمل، فلا تؤكل ذبيحة المجنون والصّبيّ الّذي لا يعقل، والسّكران الّذي لا يعقل، أمّا الصّبيّ والسّكران والمعتوه الّذين يعقلون الذّبح ويقدرون عليه فتؤكل ذبيحتهم‏.‏

ووجّه ابن قدامة الاشتراط بأنّ غير العاقل لا يصحّ منه القصد إلى الذّبح‏.‏

والأظهر عند الشّافعيّة حلّ ذبيحة الصّبيّ غير المميّز، والمجنون والسّكران مع الكراهة - بخلاف النّائم - أمّا الحلّ فلأنّ لهم قصدًا في الجملة، وأمّا الكراهة فلأنّهم قد يخطئون الذّبح، وإنّما حرّمت ذبيحة ‏(‏النّائم‏)‏ لأنّه لا يتصوّر له قصد‏.‏

23 - الشّريطة الثّانية‏:‏ أن يكون مسلماً أو كتابيّاً فلا تحلّ ذبيحة الوثنيّ والمجوسيّ وهذا متّفق عليه‏.‏

ووجه اشتراطها أنّ غير المسلم والكتابيّ لا يخلص ذكر اسم اللّه، وذلك أنّ المشرك يهلّل غير اللّه أو يذبح على النّصب‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ‏}‏‏.‏ والمجوسيّ لا يذكر اسم اللّه على الذّبيحة‏.‏

وقد قال عليه الصلاة والسلام في المجوس‏:‏ «سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم»‏.‏

والمرتدّ - ولو لدين أهل كتابٍ - لا يقرّ على الدّين الّذي انتقل إليه فهو في هذه المسألة كالوثنيّ، فإن كان المرتدّ غلاماً مراهقاً لم تؤكل ذبيحته عند أبي حنيفة ومحمّدٍ بناءً على أنّ ردّته معتبرة، وعند أبي يوسف تؤكل بناءً على أنّ ردّته غير معتبرةٍ‏.‏

وإنّما حلّت ذبيحة أهل الكتاب لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ‏}‏‏.‏

والمراد من طعامهم ذبائحهم، إذ لو لم يكن المراد ذلك لم يكن للتّخصيص بأهل الكتاب معنىً، لأنّ غير الذّبائح من أطعمة سائر الكفرة مأكول، ولو فرض أنّ الطّعام غير مختصٍّ بالذّبائح فهو اسم لما يتطعّم، والذّبائح ممّا يتطعّم، فيدخل تحت اسم الطّعام فيحلّ لنا أكلها‏.‏

من هو الكتابيّ

24 - المقصود بالكتابيّ في باب الذّبائح اليهوديّ والنّصرانيّ ذمّيّاً كان كلّ منهما أو حربيّاً، ذكراً أو أنثى، حرّاً أورقيقاً، لا المجوسيّ‏.‏

واشترط الشّافعيّة في كلٍّ من اليهود والنّصارى ألاّ يعلم دخول أوّل آبائهم في الدّين بعد بعثةٍ ناسخةٍ، فاليهوديّ الّذي علمنا دخول أوّل آبائه في اليهوديّة بعد بعثة المسيح عليه السلام لا تحلّ ذبيحته، والنّصرانيّ الّذي علمنا دخول أوّل آبائه في المسيحيّة بعد بعثة النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا تحلّ ذبيحته، لأنّ الدّخول في الدّين بعد البعثة النّاسخة له غير مقبولٍ فيكون كالرّدّة‏.‏

وقال ابن تيميّة‏:‏ إنّ كون الرّجل كتابيّاً أو غير كتابيٍّ هو حكم يستفيده بنفسه لا بنسبه، فكلّ من تديّن بدين أهل الكتاب فهو منهم، سواء كان أبوه أو جدّه قد دخل في دينهم أم لم يدخل، وسواء أكان دخوله بعد النّسخ والتّبديل أم قبل ذلك، وهو المنصوص الصّريح عن أحمد‏.‏

حكم ذبائح الصّابئة والسّامرة

25 - تؤكل ذبائح الصّابئة في قول أبي حنيفة وعند أبي يوسف ومحمّدٍ لا تؤكل‏.‏

فعند أبي حنيفة أنّهم قوم يؤمنون بكتابٍ، فإنّهم يقرءون الزّبور ولا يعبدون الكواكب ولكن يعظّمونها كتعظيم المسلمين الكعبة في الاستقبال إليها، إلاّ أنّهم يخالفون غيرهم من أهل الكتاب في بعض دياناتهم، وهذا لا يمنع المناكحة كاليهود مع النّصارى، فلا يمنع حلّ الذّبيحة‏.‏

وعند أبي يوسف ومحمّدٍ أنّهم قوم يعبدون الكواكب ‏"‏ وعابد الكواكب كعابد الوثن ‏"‏ فلا يجوز للمسلمين مناكحتهم ولا أكل ذبائحهم‏.‏

وفرّق المالكيّة بين السّامرة والصّابئة فأحلّوا ذبائح السّامرة، لأنّ مخالفتهم لليهود ليست كبيرةً، وحرّموا ذبائح الصّابئة لعظم مخالفتهم للنّصارى‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ إنّ الصّابئة فرقة من النّصارى، والسّامرة فرقة من اليهود وتؤكل ذبائح الصّابئة إن لم تكفّرهم النّصارى ولم يخالفوهم في أصول دينهم، وتؤكل ذبائح السّامرة إن لم تكفّرهم اليهود ولم يخالفوهم في أصول دينهم‏.‏

وقال ابن قدامة‏:‏ الصّحيح أنّه ينظر في الصّابئة، فإن كانوا يوافقون أحد أهل الكتابين في نبيّهم وكتابهم فهم منهم، وإن خالفوهم في ذلك فليسوا من أهل الكتاب‏.‏

حكم ذبائح نصارى بني تغلب

26 - يستوي نصارى بني تغلب مع سائر النّصارى في حلّ ذبائحهم، لأنّهم على دين النّصارى، إلاّ أنّهم نصارى العرب فيتناولهم عموم الآية الشّريفة‏.‏

وحكى صاحب ‏"‏ البدائع ‏"‏ أنّ عليّاً - رضي الله عنه - قال‏:‏ لا تؤكل ذبائح نصارى العرب لأنّهم ليسوا بأهل الكتاب، وقرأ قوله عزّ وجلّ ‏{‏وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ‏}‏، وأنّ ابن عبّاسٍ - رضي الله عنهما - قال‏:‏ تؤكل، وقرأ ‏{‏وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ‏}‏‏.‏ وينظر مصطلح‏:‏ ‏(‏جزية‏)‏‏.‏

حكم من انتقل إلى دين أهل الكتاب أو غيرهم

27 - إذا انتقل الكتابيّ إلى دينٍ غير أهل الكتاب من الكفرة لا تؤكل ذبيحته، لأنّه لم يصر كتابيّاً، وهذا لا خلاف فيه‏.‏

وإذا انتقل الكتابيّ من دينه إلى دين أهل كتابٍ آخرين كيهوديٍّ تنصّر أكلت ذبيحته، وكذا لو انتقل غير الكتابيّ من الكفرة إلى دين أهل الكتاب فإنّه تؤكل ذبيحته‏.‏

ووافق المالكيّة على هذا الأخير حيث صرّحوا بأنّ المجوسيّ إذا تنصّر أو تهوّد يقرّ على الدّين المنتقل إليه ويصير له حكم أهل الكتاب من أكل ذبيحته وغيره من الأحكام‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ من انتقل إلى دين أهل كتابٍ بعد بعثةٍ ناسخةٍ لا تحلّ ذبيحته ولا ذبيحة ذرّيّته من بعده‏.‏

حكم المتولّد بين كتابيٍّ وغير كتابيٍّ

28 - ذهب الحنفيّة والحنابلة في إحدى الرّوايتين إلى أنّ المولود بين كتابيٍّ وغير كتابيٍّ تؤكل ذبيحته أيّهما كان الكتابيّ الأب أو الأمّ‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ يعتبر الأب فإن كان كتابيّاً تؤكل وإلاّ فلا، هذا إذا كان أباً شرعيّاً بخلاف الزّاني فإنّ المتولّد لا يتبعه وإنّما يتبع الأمّ‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ لا تؤكل ذبيحة المتولّد مطلقاً، لأنّه يتبع أخسّ الأصلين احتياطاً‏.‏ وهي رواية عن أحمد‏.‏

شرائط حلّ ذبيحة الكتابيّ

29 - قال الحنفيّة‏:‏ إنّما تؤكل ذبيحة الكتابيّ إذا لم يشهد ذبحه، ولم يسمع منه شيء، أو شهد وسمع منه تسمية اللّه تعالى وحده، لأنّه إذا لم يسمع منه شيء يحمل على أنّه قد سمّى اللّه تعالى، وجرّد التّسمية تحسيناً للظّنّ به كما بالمسلم‏.‏

وإن سمع منه ذكر اسم اللّه تعالى لكنّه عنى به - عزّ وجلّ - المسيح عليه السلام تؤكل، لأنّه أظهر تسميةً هي تسمية المسلمين إلاّ إذا نصّ فقال مثلاً‏:‏ بسم اللّه الّذي هو ثالث ثلاثةٍ، فلا تحلّ، وإذا سمع منه أن سمّى المسيح وحده أو سمّى اللّه تعالى والمسيح لا تؤكل ذبيحته لقوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ‏}‏‏.‏ وهذا أهلّ لغير اللّه به فلا يؤكل‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏تحلّ ذبيحة الكتابيّ إذا لم نعلم أنّه أهّل به لغير اللّه كما هو الشّأن في المسلم‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ يشترط في ذبيحة الكتابيّ ثلاث شرائط‏:‏

أ - أن يذبح ما يحلّ له بشرعنا من غنمٍ وبقرٍ وغيرهما إذا ذبح لنفسه - أي ذبح ما يملكه- وخرج بذلك ما لو ذبح اليهوديّ لنفسه حيواناً ذا ظفرٍ، وهو ما له جلدة بين أصابعه كالإبل والإوزّ فلا يحلّ لنا أكله‏.‏

وبهذا قال الحنابلة في أحد وجهين‏.‏ لكنّهم لم يقيّدوا المسألة بكون اليهوديّ ذبح لنفسه بل قالوا‏:‏ لو ذبح اليهوديّ ذا ظفرٍ لم يحلّ لنا في أحد وجهين عن أحمد‏.‏

والوجه الثّاني عدم التّحريم وهو الرّاجح عندهم‏.‏

قال المالكيّة‏:‏ فإن ذبح لمسلمٍ بأمره ففيه قولان‏:‏ أرجحهما عند ابن عرفة التّحريم - كما ذكره العدويّ على الخرشيّ - سواء أكان ممّا يحرّم عليه أم لا‏.‏ وفي ‏"‏ الشّرح الصّغير ‏"‏‏:‏ الرّاجح الكراهة‏.‏

فإن ذبح لمسلمٍ من غير أمره فالظّاهر الحلّ - كما قرّره العدويّ - لأنّه لمّا أقدم على ذبحه الموجب لغرمه يصير كالمملوك له‏.‏

وإن ذبح الكتابيّ لكتابيٍّ آخر ما يحلّ لهما حلّ لنا، أو ما يحرم عليهما حرم علينا، أو ما يحلّ لأحدهما ويحرم على الآخر‏.‏ فالظّاهر اعتبار حال الذّابح‏.‏

ب - ألاّ يذكر عليه اسم غير اللّه، فإن ذكر عليه اسم غير اللّه كأن قال‏:‏ باسم المسيح أو العذراء أوالصّنم لم يؤكل، بخلاف ما لو ذبحوا لأنفسهم ذبيحةً بقصد أكلهم منها ولو في أعيادهم وأفراحهم، وقصدوا التّقرّب بها لعيسى عليه السلام أوالصّليب من غير ذكر اسميهما فإنّه يحلّ لنا أكلها مع الكراهة‏.‏

وبالحلّ في هذه الحالة قال أحمد في أرجح الرّوايتين عنه وهي الرّواية الّتي اختارها أكثر أصحابه، لما روي عن العرباض بن سارية رضي الله عنه أنّه سئل عنه فقال‏:‏ كلوا وأطعموني رواه سعيد، وعن أبي أمامة وأبي الدّرداء كذلك رواهما سعيد، ورخّص فيه عمرو بن الأسود ومكحول وضمرة بن حبيبٍ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ‏}‏ وهذا من طعامهم‏.‏

وفي روايةٍ عن أحمد أنّه يحرم وإن ذكر اسم اللّه عليه‏.‏

واختار ذلك الشّيخ تقيّ الدّين وابن عقيلٍ وهو قول ميمون بن مهران‏.‏

وقيل‏:‏ إن ذكر في هذه الصّورة اسم عيسى عليه السلام أوالصّليب لا يضرّ، وإنّما الّذي يضرّ إخراجه قربةً لذات غير اللّه لأنّه الّذي أهلّ به لغير اللّه‏.‏

ج - ألاّ يغيب حال ذبحه عنّا إن كان ممّن يستحلّ الميتة، إذ لا بدّ من حضور مسلمٍ عارفٍ بالذّكاة الشّرعيّة خوفاً من كونه قتلها أونخعها أوسمّى عليها غير اللّه‏.‏

ولا تشترط عندهم في الكتابيّ تسمية اللّه تعالى بخلاف المسلم‏.‏

30 - الشّريطة الثّالثة‏:‏ عند الجمهور أن يكون حلالاً إذا أراد ذبح صيد البرّ، وهو الوحش طيراً كان أو دابّةً‏.‏

فالمحرم يحرم عليه أن يتعرّض للصّيد البرّيّ سواء أكان التّعرّض باصطيادٍ، أم ذبحٍ، أم قتلٍ، أم غيرها، ومحرّم عليه أيضًا أن يدلّ الحلال على صيد البرّ أو يأمر به أو يشير إليه، فما ذبحه المحرم من صيد البرّ ميتة، وكذا ما ذبحه الحلال بدلالة المحرم أو إشارته‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً‏}‏‏.‏

وخرج بالصّيد‏:‏ المستأنس كالدّجاج والغنم والإبل، فللمحرم أن يذكّيها، لأنّ التّحريم مخصوص بالصّيد أي بما شأنه أن يصاد وهو الوحش فبقي غيره على عموم الإباحة‏.‏ وعلى هذا اتّفق جميع المذاهب‏.‏

31 - الشّريطة الرّابعة‏:‏ ذهب الجمهور إلى اشتراط تسمية اللّه تعالى عند التّذكّر والقدرة‏.‏ فمن تعمّد تركها وهو قادر على النّطق بها لا تؤكل ذبيحته - مسلماً كان أو كتابيّاً - ومن نسيها أو كان أخرس أكلت ذبيحته‏.‏

وذلك لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ‏}‏‏.‏

نهى سبحانه عن أكل متروك التّسمية وسمّاه فسقاً، والمقصود ما تركت التّسمية عليه عمداً مع القدرة، لما روي عن ابن عبّاسٍ «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ المسلم يكفيه اسمه، فإن نسي أن يسمّي حين يذبح فليسمّ وليذكر اسم اللّه ثمّ ليأكل» ويقاس على المسلم - في الحديث - الكتابيّ، لأنّ اللّه تعالى أباح لنا طعام الّذين أوتوا الكتاب فيشترط فيهم ما يشترط فينا‏.‏

وذهب الشّافعيّة إلى أنّ التّسمية مستحبّة ووافقهم ابن رشدٍ من المالكيّة وهي رواية عن أحمد مخالفة للمشهور لكن اختارها أبو بكرٍ - لأنّ اللّه تعالى أباح لنا ذبائح أهل الكتاب بقوله تعالى ‏{‏وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ‏}‏ وهم لا يذكرونها، وأمّا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ‏}‏، ففيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنّ المراد ما ذكر عليه اسم غير اللّه، يعني ما ذبح للأصنام بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ‏}‏ وسياق الآية دالّ عليه فإنّه قال‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ‏}‏ والحالة الّتي يكون فيها فسقاً هي الإهلال لغير اللّه‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ‏}‏‏.‏

ثانيهما‏:‏ ما قاله أحمد أنّ المراد به الميتة بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ‏}‏ وذلك لأنّهم كانوا يقولون‏:‏ أتأكلون ما قتلتم - أي ذكّيتم - ولا تأكلون ما قتل اللّه ‏؟‏ يعنون الميتة‏.‏

وممّا يدلّ على عدم اشتراط التّسمية ما أخرجه البخاريّ «عن عائشة - رضي الله عنها - أنّ قوماً قالوا للنّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنّ قوماً يأتوننا بلحمٍ لا ندري أذكر اسم اللّه عليه أم لا ‏؟‏ فقال‏:‏ سمّوا عليه أنتم وكلوه قالت‏:‏ وكانوا حديثي عهدٍ بالكفر» فلو كانت التّسمية شريطةً لما حلّت الذّبيحة مع الشّكّ في وجودها، لأنّ الشّكّ في الشّريطة شكّ فيما شرطت له‏.‏ ويشهد له ما أخرجه الدّارقطنيّ من حديث أبي هريرة قال‏:‏ «سأل رجل النّبيّ صلى الله عليه وسلم الرّجل منّا يذبح وينسى أن يسمّي اللّه قال‏:‏ اسم اللّه على كلّ مسلمٍ»‏.‏ وفي لفظٍ «على فم كلّ مسلمٍ» وهذا عامّ في النّاسي والمتعمّد، لأنّ العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السّبب‏.‏

ثمّ إنّ المتّفقين على اشتراط التّسمية اتّفقوا على أنّ المسلم النّاطق العالم بالوجوب إذا تركها عمدًا تحرم ذبيحته‏.‏

واختلفوا في الكتابيّ والأخرس والسّاهي والجاهل بالوجوب‏.‏

أمّا الكتابيّ فقد قال المالكيّة‏:‏ لا تشترط في حقّه التّسمية، لأنّ اللّه أباح ذبائح أهل الكتاب، وهو يعلم أنّ منهم من يترك التّسمية‏.‏ واشترطها الباقون في الكتابيّ‏.‏

وأمّا الأخرس فقد اشترط الحنابلة أن يشير بالتّسمية، بأن يومئ إلى السّماء، ولم يشترط ذلك الباقون‏.‏

وأمّا السّاهي عن التّسمية فتحرم ذبيحته، وهو رواية عن أحمد مخالفة للمشهور‏.‏

وفرّع على ما ذهب إليه من تحريم ذبيحة السّاهي، أو من ذبح ذبيحةً لغيره بأمره فنسي أن يسمّي اللّه تعالى، أو تعمّد، فهو ضامن مثل الحيوان الّذي أفسد، لأنّه ميتة، وأموال النّاس تضمن بالعمد والنّسيان‏.‏

وأمّا الجاهل بوجوب التّسمية إذا تركها عمداً فهذه المسألة مختلف فيها بين الصّحابة وغيرهم من الفقهاء‏.‏ فعن عبد اللّه بن عمر وعبد اللّه بن يزيد‏:‏ يحرم متروك التّسمية عمدًا وسهواً‏.‏ وعن ابن عبّاسٍ وإسحاق والثّوريّ وعطاءٍ وطاوسٍ وسعيد بن المسيّب وعبد الرّحمن بن أبي ليلى وربيعة‏:‏ يحرم متروك التّسمية عمداً لا سهواً‏.‏

ثمّ إنّ للتّسمية حقيقةً، وشرائط، ووقتاً، نذكرها في الفقرات التّالية‏.‏

حقيقة التّسمية

32 - حقيقتها‏:‏ ذكر اسم اللّه تعالى أيّ اسمٍ كان لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ‏.‏ وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ من غير فصلٍ بين اسمٍ واسمٍ، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ لأنّه إذا ذكر الذّابح اسمًا من أسماء اللّه لم يكن المأكول ممّا لم يذكر اسم اللّه عليه فلم يكن محرّماً، وسواء أقرن بالاسم الصّفة بأن قال‏:‏ اللّه أكبر، اللّه أجلّ، اللّه الرّحمن، اللّه الرّحيم ونحو ذلك أم لم يقرن بأن قال‏:‏ اللّه، أو الرّحمن، أو الرّحيم أو غير ذلك، لأنّ المشروط بالآية ذكر اسم اللّه - عزّ شأنه - وكذا التّهليل والتّحميد والتّسبيح، سواء أكان جاهلاً بالتّسمية المعهودة أم عالماً بها، وسواء أكانت التّسمية بالعربيّة أم بغيرها، ممّن لا يحسن العربيّة أو يحسنها، هذا ما نصّ عليه الحنفيّة‏.‏

ووافق سائر المذاهب على التّسمية المعهودة بالعربيّة، وخالف بعضهم في إلحاق الصّيغ الأخرى بها، وبعضهم في وقوعها بغير العربيّة‏.‏

فالمالكيّة قالوا‏:‏ إنّ التّسمية الواجبة هي ذكر اسم اللّه بأيّه صيغةٍ كانت من تسميةٍ أو تهليلٍ أو تسبيحٍ أو تكبيرٍ، لكن الأفضل أن يقول بسم اللّه واللّه أكبر‏.‏

والشّافعيّة قالوا‏:‏ يكفي في التّسمية‏:‏ بسم اللّه، والأكمل‏:‏ بسم اللّه الرّحمن الرّحيم‏.‏

وقيل‏:‏ لا يقول الرّحمن الرّحيم، لأنّ الذّبح فيه تعذيب ‏"‏ والرّحمن الرّحيم ‏"‏ لا يناسبانه‏.‏

والحنابلة قالوا‏:‏ إنّ المذهب المنصوص عليه هو أن يقول‏:‏ بسم اللّه، لا يقوم غيرها مقامها، لأنّ إطلاق التّسمية عند ذكرها ينصرف إليها، وقيل‏:‏ يكفي تكبير اللّه تعالى ونحوه كالتّسبيح والتّحميد، وإن ذكر اسم اللّه بغير العربيّة أجزأه وإن أحسن العربيّة، وهذا هو المذهب عندهم، لأنّ المقصود ذكر اسم اللّه تعالى، وهو يحصل بجميع اللّغات‏.‏

شرائط التّسمية

33 - يشترط في التّسمية أربع شرائط‏:‏

أ - أن تكون التّسمية من الذّابح حتّى لو سمّى غيره وهو ساكت ذاكر غير ناسٍ لا يحلّ عند من أوجب التّسمية‏.‏

ب - أن يريد بها التّسمية على الذّبيحة، فإنّ من أراد بها التّسمية لافتتاح العمل لا يحلّ، وكذا إذا قال الحمد للّه وأراد به الحمد على سبيل الشّكر، وكذا لو سبّح أو هلّل أو كبّر ولم يرد به التّسمية على الذّبيحة وإنّما أراد به وصفه بالوحدانيّة والتّنزّه عن صفات الحدوث لا غير‏.‏ وهذا أيضاً عند من أوجب التّسمية‏.‏

ومن غفل عن إرادة الذّكر والتّعظيم لم تحرم ذبيحته حيث لم يرد معنىً آخر ممّا ذكرنا‏.‏

ج - ألاّ يشوب تعظيمه تعالى بالتّسمية معنىً آخر كالدّعاء، فلو قال‏:‏ ‏"‏ اللّهمّ اغفر لي ‏"‏ لم يكن ذلك تسميةً، لأنّه دعاء، والدّعاء لا يقصد به التّعظيم المحض، فلا يكون تسميةً كما لا يكون تكبيراً‏.‏

د - أن يعيّن بالتّسمية الذّبيحة لأنّ ذكر اسم اللّه عليها لا يتحقّق إلاّ بذلك‏.‏

وقت التّسمية

34 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ وقت التّسمية في الذّكاة الاختياريّة هو وقت التّذكية، لا يجوز تقديمها عليه إلاّ بزمانٍ قليلٍ لا يمكن التّحرّز عنه‏.‏

وأمّا الحنابلة فالصّحيح من مذهبهم أنّ ذكر اللّه يكون عند حركة يد الذّابح، وقال جماعة منهم عند الذّبح أو قبله قريباً، فصل بكلامٍ أو لا‏.‏

35 - الشّريطة الخامسة‏:‏ - من شرائط الذّابح - ألاّ يهلّ لغير اللّه بالذّبح‏.‏

والمقصود هو تعظيم غير اللّه سواء أكان برفع الصّوت أم لا، وسواء أكان معه تعظيم اللّه تعالى أم لا، وقد كان المشركون يرفعون أصواتهم عند الذّبح بأسماء الآلهة متقرّبين إليها بذبائحهم‏.‏ وهي شريطة متّفق عليها لتصريح القرآن الكريم بها، إلاّ أنّ المالكيّة يستثنون الكتابيّ في بعض أحواله كما تقدّم في الشّريطة الثّانية من شرائط الذّابح‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ ف /29‏)‏‏.‏ وللإهلال لغير اللّه صور‏:‏

الصّورة الأولى‏:‏ ذكر اسم غير اللّه عند الذّبح على وجه التّعظيم سواء أذكر معه اسم اللّه أم لا، فمن ذلك أن يقول الذّابح‏:‏ بسم اللّه واسم الرّسول فهذا لا يحلّ، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ‏}‏ ولأنّ المشركين يذكرون مع اللّه غيره فتجب مخالفتهم بالتّجريد‏.‏

ولو قال الذّابح - بسم اللّه - محمّد رسول اللّه فإن قال‏:‏ ومحمّدٍ - بالجرّ - لا يحلّ، لأنّه أشرك في اسم اللّه اسم غيره‏.‏ وإن قال‏:‏ ومحمّد - بالرّفع - يحلّ، لأنّه لم يعطفه بل استأنف فلم يوجد الإشراك، إلاّ أنّه يكره لوجود الوصل من حيث الصّورة فيتصوّر بصورة الحرام فيكره، هذا ما صرّح به الحنفيّة‏.‏

وصرّح الشّافعيّة بأنّه لو قال‏:‏ بسم اللّه واسم محمّدٍ، فإن قصد التّشريك كفر وحرمت الذّبيحة، وإن قصد أذبح باسم اللّه وأتبرّك باسم محمّدٍ كان القول مكروهاً والذّبيحة حلالاً، وإن أطلق كان القول محرّمًا لإبهامه التّشريك وكانت الذّبيحة حلالاً‏.‏

الصّورة الثّانية‏:‏ أن يقصد الذّابح التّقرّب لغير اللّه تعالى بالذّبح وإن ذكر اسم اللّه وحده على الذّبيحة ومن ذلك أن يذبح لقدوم أميرٍ ونحوه‏.‏

وفي الدّرّ المختار وحاشية ابن عابدين عليه ما خلاصته‏:‏ لو ذبح لقدوم الأمير ونحوه من العظماء ‏"‏ تعظيماً له ‏"‏ حرمت ذبيحته، ولو أفرد اسم اللّه تعالى بالذّكر، لأنّه أهّل بها لغير اللّه‏.‏ ولو ذبح للضّيف لم تحرم ذبيحته لأنّه سنّة الخليل عليه السلام، وإكرام الضّيف تعظيم لشرع اللّه تعالى، ومثل ذلك ما لو ذبح للوليمة أو للبيع‏.‏

والفرق بين ما يحلّ وما يحرم‏:‏ إن قصد تعظيم غير اللّه عند الذّبح يحرم، وقصد الإكرام ونحوه لا يحرّم‏.‏

وفي حاشية البجيرميّ على الإقناع ‏"‏ أفتى أهل بخارى بتحريم ما يذبح عند لقاء السّلطان تقرّباً إليه ‏"‏‏.‏

36 - الشّريطة السّادسة‏:‏ الّتي انفرد بها المالكيّة‏:‏ أن يقطع الذّابح من مقدّم العنق، فلا تحلّ الذّبيحة إن ضربها من القفا، لأنّها بقطع النّخاع تصير ميتةً، وكذا لا تحلّ إن ضربها من صفحة العنق وبلغ النّخاع، أمّا إن بدأ الضّرب من الصّفحة ومال بالسّكّين إلى الصّفحة الأخرى من غير قطع النّخاع، فإنّها تؤكل‏.‏

وصرّح الشّافعيّة والحنابلة بأنّه لو ذبح من القفا عصى، فإن أسرع فقطع الحلقوم والمريء وبالذّبيحة حياة مستقرّة حلّت، لأنّ الذّكاة صادفتها وهي حيّة وإلاّ فلا تحلّ، لأنّها صارت ميتةً فلا يفيد الذّبح بعد ذلك‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ إن تعمّد ذلك ففي إحدى الرّوايتين وصحّحها ابن قدامة والمرداويّ تحلّ، والثّانية‏:‏ لا تحلّ، وهو منصوص أحمد ومفهوم كلام الخرقيّ‏.‏

37 - الشّريطة السّابعة‏:‏ الّتي انفرد بها المالكيّة أيضاً‏:‏ ألاّ يرفع يده قبل تمام التّذكية، فإن رفع يده ففيه تفصيل، وحاصله، أنّه لا يضرّ إلاّ في صورةٍ واحدةٍ، وهي ما لو أنفذ بعض مقاتلها وعاد لتكملة الذّبح عن بعدٍ، وما عدا هذه تؤكل اتّفاقاً أو على الرّاجح‏.‏

وصورة الاتّفاق ما إذا كانت لو تركت تعيش، أو لا تعيش وكان الرّفع اضطراراً‏.‏

وصورة الرّاجح ما إذا كانت لو تركت لم تعش وعاد عن قربٍ وكان الرّفع اختياراً‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ إن رفع يده مرّةً أو أكثر لم يضرّ إن كانت في المذبوح حياة مستقرّة عند بدء المرّة الأخيرة، فإن بدأها وفيه حركة مذبوحٍ لم يحلّ‏.‏

38 - الشّريطة الثّامنة‏:‏ ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى اشتراط قصد التّذكية بأن ينوي الذّابح التّذكية الشّرعيّة وإن لم يستحضر حلّ الأكل من الذّبيحة، فلو قصد مجرّد موتها أو قصد ضربها فأصاب محلّ الذّبح لم تؤكل، وكذا إذا ترك النّيّة ولو نسياناً أو عجزاً لم تؤكل ذبيحته‏.‏ إلاّ أنّ الشّافعيّة يعنون بالقصد قصد الفعل كما لو صال عليه حيوان مأكول فضربه بسيفٍ فقطع رأسه فإنّه يجوز أكله، لأنّ قصد الذّبح لا يشترط، وإنّما يشترط قصد الفعل وقد وجد‏.‏ ولتفصيل ذلك راجع ‏(‏صائل‏)‏‏.‏

شرائط آلة الذّبح

39 - يشترط في صحّة الذّبح شريطتان راجعتان إلى آلته‏:‏ أن تكون قاطعةً، وألاّ تكون سنًّا أو ظفرًا قائمين‏.‏

40 - الشّريطة الأولى‏:‏ المتّفق عليها بين الفقهاء‏.‏

أن تكون قاطعةً، سواء أكانت حديداً أم لا، كالمروة واللّيطة وشقّة العصا‏.‏

والزّجاج، والصّدف القاطع، وسواء أكانت حادّةً أم كليلةً ما دامت قاطعةً‏.‏

والأصل في جواز التّذكية بغير الحديد ما ورد «عن رافع بن خديجٍ قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول اللّه، إنّا لاقوا العدوّ غداً، وليست معنا مدىً‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ أعجل أو أرني، ما أنهر الدّم، وذكر اسم اللّه فكل، ليس السّنّ والظّفر‏.‏ وسأحدّثك‏:‏ أمّا السّنّ فعظم، وأمّا الظّفر فمدى الحبشة»‏.‏

وأمّا جواز التّذكية بالمدى الكليلة ونحوها إن كانت تقطع فلحصول معنى الذّبح والنّحر‏.‏ وصرّح الشّافعيّة بأنّ الكليلة يشترط فيها ألاّ يحتاج القطع بها إلى قوّة الذّابح، وأن يقطع الحلقوم والمريء قبل انتهاء الحيوان إلى حركة مذبوحٍ‏.‏

41 - الشّريطة الثّانية‏:‏ ذهب الحنفيّة والمالكيّة في قولٍ رواه ابن حبيبٍ عن مالكٍ إلى ألاّ تكون الآلة سنّاً أو ظفراً قائمين، فإن كانت كذلك لم تحلّ الذّبيحة، لأنّ الذّابح يعتمد عليها فتخنق وتفسخ فلا يحلّ أكلها‏.‏

ولهذا لو كان الظّفر القائم ظفر غيره جاز وذلك بأن يأخذ الذّابح يد غيره فيمرّ ظفرها كما يمرّ السّكّين فإنّ الذّبيحة تحلّ، لأنّها قطعت ولم تفسخ، وخرج بقيد ‏"‏ قائمين ‏"‏ السّنّ والظّفر المنزوعان إذا كانا قاطعين فتجوز التّذكية بهما‏.‏

وهذا لا يعارض الحديث السّابق فإنّ المراد فيه بالسّنّ والظّفر القائمان لا المنزوعان، ويؤيّده حديث الطّبرانيّ من رواية أبي أمامة قال‏:‏ «قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ كلّ ما أفرى الأوداج ما لم يكن قرض سنٍّ أو حزّ ظفرٍ»‏.‏

وذهب الشّافعيّة وهو الصّحيح عند المالكيّة إلى أنّه لا تجوز الذّكاة بالسّنّ والظّفر وبقيّة العظام مطلقاً متّصلين كانا أو منفصلين لظاهر حديث الصّحيحين السّابق‏.‏

وقال الحنابلة لا يجوز بالسّنّ والظّفر، وفي العظم روايتان عن أحمد، والمذهب الجواز‏.‏ والقول الثّالث عند المالكيّة‏:‏ أنّه تجوز الذّكاة مطلقاً بالسّنّ والظّفر منفصلين ومتّصلين‏.‏ والقول الرّابع عند المالكيّة جواز الذّكاة بالظّفر مطلقاً وكراهيتها بالسّنّ مطلقاً‏.‏

وروي عن مالكٍ أيضاً جواز الذّكاة بالعظم مطلقاً‏.‏

ومحلّ أقوال المالكيّة أن توجد آلة معهما غير الحديد فإن وجد الحديد تعيّن وإن لم توجد آلة سواها تعيّن الذّبح بهما‏.‏

آداب الذّبح

42 - يستحبّ في الذّبح أمور‏.‏ منها‏:‏

أ - أن يكون بآلة حديدٍ حادّةٍ كالسّكّين والسّيف الحادّين لا بغير الحديد ولا بالكليلة، لأنّ ذلك مخالف للإراحة المطلوبة في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «وليرح ذبيحته»‏.‏

ب - التّذفيف في القطع - وهو الإسراع - لأنّ فيه إراحةً للذّبيحة‏.‏

ج - أن يكون الذّابح مستقبل القبلة، والذّبيحة موجّهةً إلى القبلة بمذبحها لا بوجهها إذ هي جهة الرّغبة إلى طاعة اللّه عزّ شأنه، ولأنّ ابن عمر - رضي الله عنهما - كان يكره أن يأكل ذبيحةً لغير القبلة‏.‏ ولا مخالف له من الصّحابة، وصحّ ذلك عن ابن سيرين وجابر بن زيدٍ‏.‏

د - إحداد الشّفرة قبل إضجاع الشّاة ونحوها، صرّح بذلك الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة واتّفقوا على كراهة أن يحدّ الذّابح الشّفرة بين يدي الذّبيحة، وهي مهيّأة للذّبح لما أخرجه الحاكم عن ابن عبّاسٍ - رضي الله عنهما - «أنّ رجلاً أضجع شاةً يريد أن يذبحها وهو يحدّ شفرته، فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ أتريد أن تميتها موتاتٍ ‏؟‏ هلاّ حددت شفرتك قبل أن تضجعها»‏.‏

ولا تحرم الذّبيحة بترك شيءٍ من مستحبّات الذّبح أو فعل شيءٍ من مكروهاته، لأنّ النّهي المستفاد من الحديث ليس لمعنىً في المنهيّ عنه بل لمعنىً في غيره، وهو ما يلحق الحيوان من زيادة ألمٍ لا حاجة إليها، فلا يوجب الفساد‏.‏

هـ - أن تضجع الذّبيحة على شقّها الأيسر برفقٍ‏.‏

وذكر المالكيّة كيفيّة الإضجاع وما يسنّ معه فقالوا‏:‏ السّنّة أن تأخذ الشّاة برفقٍ وتضجعها على شقّها الأيسر ورأسها مشرف، وتأخذ بيدك اليسرى جلدة حلقها من اللّحي الأسفل بالصّوف أو غيره فتمدّه حتّى تتبيّن البشرة، وتضع السّكّين في المذبح حتّى تكون الجوزة في الرّأس، ثمّ تسمّي اللّه وتمرّ السّكّين مرّاً مجهزاً من غير ترديدٍ، ثمّ ترفع ولا تنخع ولا تضرب بها الأرض ولا تجعل رجلك على عنقها‏.‏

وصرّح الشّافعيّة باستحباب شدّ قوائمها وترك رجلها اليمنى لتستريح بتحريكها‏.‏

والدّليل على استحباب الإضجاع في جميع المذبوحات حديث عائشة «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بكبشٍ أقرن يطأ في سوادٍ، ويبرك في سوادٍ، وينظر في سوادٍ فأتي به ليضحّي به، فقال لها‏:‏ يا عائشة، هلمّي المدية ثمّ قال‏:‏ اشحذيها بحجرٍ ففعلت، ثمّ أخذها وأخذ الكبش فأضجعه ثمّ ذبحه»‏.‏

قال النّوويّ‏:‏ جاءت الأحاديث بالإضجاع وأجمع عليه المسلمون، واتّفق العلماء على أنّ إضجاع الذّبيحة يكون على جانبها الأيسر لأنّه أسهل على الذّابح في أخذ السّكّين باليمين وإمساك رأسها باليسار‏.‏

وقاس الجمهور على الكبش جميع المذبوحات الّتي تحتاج فيها إلى الإضجاع‏.‏

و - سوق الذّبيحة إلى المذبح برفقٍ، صرّح بذلك الشّافعيّة‏.‏

ز - عرض الماء على الذّبيحة قبل ذبحها، صرّح بذلك الشّافعيّة أيضاً‏.‏

ح - وإذا كانت الذّبيحة قربةً من القربات كالأضحيّة يكبّر الذّابح ثلاثاً قبل التّسمية وثلاثاً بعدها، ثمّ يقول‏:‏ اللّهمّ هذا منك وإليك فتقبّله منّي، صرّح بذلك الشّافعيّة‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ أضحيّة‏)‏‏.‏ ط - كون الذّبح باليد اليمنى، صرّح بذلك المالكيّة والشّافعيّة‏.‏

ي - عدم المبالغة في القطع حتّى يبلغ الذّابح النّخاع أو يبين رأس الذّبيحة حال ذبحها وكذا بعد الذّبح قبل أن تبرد وكذا سلخها قبل أن تبرد لما في كلّ ذلك من زيادة إيلامٍ لا حاجة إليها‏.‏ ولحديث ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن الذّبيحة أن تفرّس»‏.‏ قال إبراهيم الحربيّ في ‏"‏ غريب الحديث ‏"‏‏:‏ الفرس أن يذبح الشّاة فتنخع، وقال ابن الأثير في ‏"‏ النّهاية ‏"‏‏:‏ هو ‏"‏ كسر رقبة الذّبيحة قبل أن تبرد ‏"‏ فإن نخع أو سلخ قبل أن تبرد لم تحرم الذّبيحة لوجود التّذكية بشرائطها‏.‏

وصرّح المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة بكراهة قطع عضوٍ منها أو إلقائها في النّار بعد تمام ذبحها وقبل خروج روحها‏.‏

وصرّح الشّافعيّة أيضاً بكراهة تحريكها ونقلها قبل خروج روحها‏.‏

وقال القاضي من الحنابلة‏:‏ يحرم كسر عنقها حتّى تبرد، وقطع عضوٍ منها قبل أن تبرد‏.‏

ثانياً‏:‏ النّحر

حقيقة النّحر

43 - حقيقته قطع الأوداج في اللّبّة عند القدرة على الحيوان، وهذا رأي الجمهور، وقال المالكيّة‏:‏ إنّ حقيقته الطّعن في اللّبّة طعناً يفضي إلى الموت وإن لم تقطع الأوداج، وهذا إنّما يكون عند القدرة على الحيوان أيضاً‏.‏

واللّبّة هي الثّغرة بين التّرقوتين أسفل العنق كما سبق في ‏(‏ف /1‏)‏‏.‏

وسبق في حقيقة الذّكاة الاختياريّة ‏(‏ف /11‏)‏ أنّ المختصّ بالنّحر من الحيوانات هو الإبل عند الجمهور، وزاد الشّافعيّة كلّ ما طال عنقه، وزاد المالكيّة ما قدر عليه من الزّراف والفيلة، وجوّزوا الذّبح والنّحر - مع أفضليّة الذّبح - في البقر وما قدر عليه من بقر الوحش وحمره وخيله وبغاله‏.‏

ثمّ إنّ خلاف الأئمّة فيما يكفي من قطع الأوداج في النّحر هو الخلاف السّابق في ‏"‏ حقيقة الذّبح ‏"‏ ‏(‏ف /14‏)‏‏.‏ إلاّ أنّ المالكيّة فرّقوا بين الذّبح والنّحر فقالوا‏:‏ إنّ الذّبح يكون بقطع الحلقوم والودجين، والنّحر يكون بالطّعن في اللّبّة طعناً مفضياً إلى الموت، دون اشتراط قطع شيءٍ من العروق الأربعة على المشهور، خلافاً للّخميّ، لأنّ وراء اللّبّة عرقاً متّصلاً بالقلب يفضي طعنه إلى سرعة خروج الرّوح‏.‏

شرائط النّحر

44 - يشترط في صحّة النّحر الشّرائط السّابق ذكرها في الذّبح، إلاّ أنّ المالكيّة قالوا يشترط أن لا يكون الحيوان المنحور مختصّاً بالذّبح وهو ما عدا الأصناف الثّمانية‏.‏

فلو نحر ما يختصّ بالذّبح لغير ضرورةٍ حرم النّحر والحيوان المنحور خلافاً لسائر المذاهب الّتي تجيز نحر ما يذبح‏.‏

آداب النّحر

45 - يستحبّ في النّحر كلّ ما يستحبّ في الذّبح، واختلاف المذاهب هناك هو نفس اختلافها هنا‏.‏ إلاّ أنّ الإبل تنحر قائمةً على ثلاثٍ معقولة اليد اليسرى‏.‏

وذكر المالكيّة للنّحر كيفيّةً وهي أن يوجّه النّاحر ما يريد نحره إلى القبلة ويقف بجانب الرّجل اليمنى غير المعقولة ممسكاً مشفره الأعلى بيده اليسرى ويطعنه في لبّته بيده اليمنى مسمّياً‏.‏ ونقل عن أحمد أنّه إن خشي عليها أناخها‏.‏

وممّا يدلّ على استحباب إقامة الإبل على ثلاثٍ عند النّحر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ‏}‏ قال ابن عبّاسٍ‏:‏ ‏"‏ معقولةً على ثلاثةٍ ‏"‏‏.‏

وأحاديث منها‏:‏ «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة اليسرى قائمةً على ما بقي من قوائمها»‏.‏

ومنها ما ورد عن زياد بن جبيرٍ «أنّ ابن عمر أتى على رجلٍ وهو ينحر بدنته باركةً، فقال‏:‏ ابعثها قياماً مقيّدةً سنّة نبيّكم صلى الله عليه وسلم»‏.‏

مكروهات النّحر

46 - يكره في النّحر جميع المكروهات الّتي سبق ذكرها في الذّبح‏.‏

الذّكاة الاضطراريّة

47 - الذّكاة الاضطراريّة هي الجرح في أيّ موضعٍ كان من البدن عند العجز عن الحيوان، أي كأنّها صيد فتستعمل للضّرورة في المعجوز عنه من الصّيد والأنعام، وتسمّى هذه الحالة‏:‏ العقر‏.‏

ذهب جمهور الفقهاء ‏"‏ الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ‏"‏ إلى حلّ لحم الحيوان بذكاة الضّرورة لأنّ الذّبح إذا لم يكن مقدوراً، ولا بدّ من إخراج الدّم لإزالة المحرّم وهو الدّم المسفوح وتطييب اللّحم، فيقام سبب الذّبح مقامه وهو الجرح، لأنّ التّكليف بحسب الوسع‏.‏

فلو توحّش حيوان أهليّ بعد أن كان إنسيّاً أو مستأنساً، أو ندَّ بعير ‏"‏ شرد ‏"‏ أو تردّى في بئرٍ ونحوه، ولم تمكن الذّكاة الاختياريّة، أي عجز عن ذبحه في الحلق فذكاته حيث يصاب بأيّ جرحٍ من بدنه، ويحلّ حينئذٍ أكله كصيد الطّائر أو الحيوان المتوحّش، لحديث رافع بن خديجٍ، قال‏:‏ «كنّا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في سفرٍ، فندّ بعير من إبل القوم، ولم يكن معهم خيل، فرماه رجل بسهمٍ فحبسه، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنّ لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش فإذا غلبكم منها شيء فافعلوا به هكذا»‏.‏

وسواء ندّ البعير أو البقرة أو الشّاة في الصّحراء أو في المصر، فذكاتها العقر، وبه قال عليّ وابن مسعودٍ وابن عمر وابن عبّاسٍ وعائشة رضي الله عنهم‏.‏

قال الكاسانيّ‏:‏ فإن ندّت الشّاة في الصّحراء فذكاتها العقر، لأنّه لا يقدر عليها، وإن ندّت في المصر لم يجز عقرها، لأنّه يمكن أخذها، إذ هي لا تدفع عن نفسها فكان الذّبح مقدوراً عليه فلا يجوز العقر، وهذا لأنّ العقر خلف من الذّبح والقدرة على الأصل تمنع المصير إلى الخلف‏.‏

ثمّ لا خلاف في التّذكية الاضطراريّة بالسّهم والرّمح والحجر والخشب ونحوها، وأمّا إذا لم يجرح فلا يحلّ أكله لما روي «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سئل عن الصّيد بالمعراض، فقال عليه السلام‏:‏ إذا أصاب بحدّه فكل وإذا أصابه بعرضه فقتل فإنّه وقيذ فلا تأكل»‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ إنّ جميع الحيوانات المستأنسة إذا شردت وتوحّشت فإنّها لا تؤكل بالعقر عملاً بالأصل، وقال ابن حبيبٍ إن توحّش غير البقر لم يؤكل بالعقر، وإن توحّش البقر جاز أكله بالعقر، لأنّ البقر لها أصل في التّوحّش ترجع إليه، أي شبّهها ببقر الوحش‏.‏

وإن وقع في حفرةٍ عجز عن إخراجه فلا يؤكل بالعقر، وقال ابن حبيبٍ‏:‏ يؤكل الحيوان المتردّي المعجوز عن ذكاته بقراً أو غيره بالعقر صيانةً للأموال‏.‏

وللتّفصيل‏:‏ ‏(‏ر‏:‏ صيال وصيد‏)‏‏.‏

ذكاة ما ليس له نفس سائلة

48 - سبق بيان أنّ ما ليس له نفس سائلة كالجراد لا حاجة في حلّ أكله إلى الذّكاة عند الجمهور لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أحلّت لنا ميتتان ودمان فأمّا الميتتان فالحوت والجراد، وأمّا الدّمان فالكبد والطّحال»‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ لا بدّ أن يقصد إلى إزهاق روحه بفعل شيءٍ يموت بفعله سواء كان الفعل ممّا يعجّل الموت من قطع رأسٍ أو إلقاءٍ في نارٍ أو ماءٍ حارٍّ، أوممّا لا يعجّل كقطع جناحٍ أو رجلٍ أو إلقاءٍ في ماءٍ باردٍ وهو رواية عند الحنابلة‏.‏

وصرّح المالكيّة بأنّه لا بدّ في هذه التّذكية من النّيّة والتّسمية وسائر الشّرائط المعتبرة في التّذكية‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ أطعمة‏)‏

ذكاة الجنين تبعاً لأمّه

49 - إذا ذكّيت أنثى من الحيوان فمات بتذكيتها جنينها ففي حلّ هذا الجنين خلاف بين العلماء‏.‏ فمن قال بحلّه قال إنّ ذكاته هي موته بسبب ذكاة أمّه، فهذا الموت ذكاة تبعيّة، ومن قال بعدم حلّه قال إنّه ميتة لأنّ الذّكاة يجب أن تكون استقلاليّةً‏.‏

وتفصيل الخلاف في ذلك أنّ جنين المذكّاة الّذي خرج بعد تذكيتها له حالتان‏.‏

الحالة الأولى‏:‏ أن يخرج قبل نفخ الرّوح فيه بأن يكون علقةً أو مضغةً أو جنيناً غير كامل الخلقة فلا يحلّ عند الجمهور لأنّه ميتة، إذ لا يشترط في الموت تقدّم الحياة‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ‏}‏ فمعنى قوله ‏{‏وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً‏}‏ كنتم مخلوقين بلا حياةٍ، وذلك قبل أن تنفخ فيهم الرّوح‏.‏

الحالة الثّانية‏:‏ أن يخرج بعد نفخ الرّوح فيه بأن يكون جنيناً كامل الخلقة - أشعر أو لم يشعر - ولهذه الحالة صور‏:‏

الصّورة الأولى‏:‏ أن يخرج حيّاً حياةً مستقرّةً فتجب تذكيته فإن مات قبل التّذكية، فهو ميتة اتّفاقاً‏.‏

الصّورة الثّانية‏:‏ أن يخرج حيًّا كحياة مذبوحٍ فإن أدركنا ذكاته وذكّيناه حلّ اتّفاقاً، وإن لم ندرك حلّ أيضاً عند الشّافعيّة والحنابلة، لأنّ حياة المذبوح كلا حياةٍ فكأنّه مات بتذكية أمّه، وبنحو هذا قال أبو يوسف ومحمّد‏.‏

وبهذا قال المالكيّة أيضاً، لكنّهم اشترطوا في حلّه حينئذٍ أن ينبت شعر جسده وإن لم يتكامل ولا يكفي شعر رأسه أو عينه‏.‏

الصّورة الثّالثة‏:‏ أن يخرج ميّتًا ويعلم أن موته كان قبل تذكية أمّه فلا يحلّ اتّفاقاً، ويعرف موته قبل ذكاة أمّه بأمورٍ منها‏:‏ أن يكون متحرّكاً في بطنها فتضرب فتسكن حركته ثمّ تذكّى، فيخرج ميّتاً، ومنها‏:‏ أن يخرج رأسه ميّتاً ثمّ تذكّى‏.‏

الصّورة الرّابعة‏:‏ أن يخرج ميّتاً بعد تذكية أمّه بمدّةٍ لتواني المذكّي في إخراجه، فلا يحلّ اتّفاقاً للشّكّ في أنّ موته كان بتذكية أمّه أو بالانخناق للتّواني في إخراجه‏.‏

الصّورة الخامسة‏:‏ أن يخرج ميّتاً عقب تذكية أمّه من غير أن يعلم موته قبل التّذكية فيغلب على الظّنّ أنّ موته بسبب التّذكية لا بسببٍ آخر‏.‏

وهذه الصّورة محلّ خلافٍ بين الفقهاء، فالمالكيّة والشّافعيّة، والحنابلة، وأبو يوسف، ومحمّد، وجمهور الفقهاء من الصّحابة وغيرهم يقولون إنّه لا بأس بأكله‏.‏

غير أنّ المالكيّة اشترطوا الإشعار، وهو مذهب كثيرٍ من الصّحابة‏.‏

ودليل الجمهور قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ذكاة الجنين ذكاة أمّه» وهو يقتضي أنّه يتذكّى بذكاة أمّه، واحتجّوا أيضاً بأنّه تبع لأمّه حقيقةً وحكماً، أمّا حقيقةً فظاهر، وأمّا حكمًا فلأنّه يباع ببيع الأمّ، ولأنّ جنين الأمة يعتق بعتقها، والحكم في التّبع يثبت بعلّة الأصل ولا تشترط له علّة على حدةٍ لئلاّ ينقلب التّبع أصلاً‏.‏

وذهب أبو حنيفة وزفر والحسن بن زيادٍ إلى أنّه لا يحلّ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ‏}‏ والجنين الّذي لم يدرك حيّاً بعد تذكية أمّه ميتة، وممّا يؤكّد ذلك أنّ حياة الجنين مستقلّة إذ يتصوّر بقاؤها بعد موت أمّه فتكون تذكيته مستقلّةً‏.‏

هل يشترط العلم بكون الذّابح أهلاً للتّذكية

50 - قال الزّيلعيّ‏:‏ لو أنّ بازياً معلّماً أخذ صيداً فقتله ولا يدرى أرسله إنسان أو لا، لا يؤكل لوقوع الشّكّ في الإرسال، ولا إباحة بدونه، وإن كان مرسلاً فهو مال الغير فلا يجوز تناوله إلاّ بإذن صاحبه، حكي ذلك عن الزّيلعيّ صاحب الدّرّ المختار، ثمّ قال‏:‏ وقع في عصرنا حادثة الفتوى وهي أنّ رجلاً وجد شاته مذبوحةً ببستانه فهل يحلّ له أكلها أو لا ‏؟‏ ومقتضى ما ذكره الزّيلعيّ أنّه لا يحلّ لوقوع الشّكّ في أنّ الذّابح ممّن تحلّ ذكاته أو لا، وهل سمّى اللّه تعالى عليها أو لا ‏؟‏ لكن في الخلاصة في ‏"‏ اللّقطة ‏"‏‏:‏ إن أصاب قوم بعيراً مذبوحاً في طريق البادية ولم يكن قريباً من الماء ووقع في القلب أنّ صاحبه فعل ذلك إباحةً للنّاس فلا بأس بأخذه والأكل منه، لأنّ الثّابت بالدّلالة كالثّابت بالصّريح وهذا من صاحب الخلاصة يدلّ على إباحة الأكل بالشّريطة المذكورة‏.‏

فعلم أنّ العلم بكون الذّابح أهلاً للذّكاة ليس بشرطٍ، وقد يفرّق بين حادثة الفتوى واللّقطة بأنّ الذّابح في الأولى غير المالك قطعاً وفي الثّانية يحتمل‏.‏

وأفاد ابن عابدين أنّ بين مسألة البازي ومسألة المذبوح في البستان فرقاً وهو أنّ البازي الّذي طبعه الاصطياد ظاهر حاله أنّه غير مرسلٍ وغير مملوكٍ لأحدٍ بخلاف الذّابح في بلاد الإسلام فإنّ الظّاهر أنّه تحلّ ذبيحته وأنّه سمّى، واحتمال عدم ذلك موجود في اللّحم الّذي يباع في السّوق وهو احتمال غير معتبرٍ في التّحريم قطعاً‏.‏

وأفاد أيضاً أنّ مسألة البعير الّذي وجد مذبوحاً قيّدت بقيدين‏:‏

الأوّل‏:‏ أنّه لم يكن قريبًا من الماء لأنّه إذا كان قريباً منه احتمل أنّه وقع فيه فأخرجه صاحبه منه فذبحه على ظنّ حياته فلم يتحرّك ولم يخرج منه دم فتركه لعلمه بموته بالماء، فلا يتأتّى احتمال أنّه تركه إباحةً للنّاس‏.‏

والقيد الثّاني‏:‏ أنّه وقع في القلب أنّ صاحبه فعل ذلك إباحةً للنّاس، والمقصود بالوقوع في القلب الظّنّ الغالب لا مجرّد الخطور فإنّه لا يترتّب عليه حكم‏.‏

وأفاد أيضاً أنّه يجب التّفرقة بين ما لو كان الموضع الّذي وجد فيه المذبوح يسكنه أو يسلك فيه من لا تحلّ ذكاته كالمجوسيّ أو لا، ففي الحالة الأولى لا يؤكل بخلاف الحالة الثّانية‏.‏ ويناسب هذا ما في كتاب ‏"‏ الإقناع ‏"‏ في مذهب الشّافعيّ ‏"‏ لو أخبره فاسق أو كتابيّ أنّه ذبح هذه الشّاة مثلاً حلّ أكلها، لأنّه من أهل الذّبح، فإن كان في البلد مجوس ومسلمون وجهل ذابح الحيوان هل هو مسلم أو مجوسيّ لم يحلّ أكله للشّكّ في الذّبح المبيح والأصل عدمه، لكن إن كان المسلمون أغلب كما في بلاد الإسلام فينبغي أن يحلّ، وفي معنى المجوسيّ كلّ من لم تحلّ ذبيحته‏.‏

وفي كتاب ‏"‏ المقنع ‏"‏ في المذهب الحنبليّ ‏"‏ إذا لم يعلم أسمّى الذّابح أم لا، أو ذكر اسم غير اللّه أم لا، فذبيحته حلال، لأنّ اللّه تعالى أباح لنا كلّ ما ذبحه المسلم والكتابيّ وقد علم أنّنا لا نقف على كلّ ذابحٍ‏.‏ وقد أخرج البخاريّ عن عائشة رضي الله عنها «أنّهم قالوا‏:‏ يا رسول اللّه إنّ قوماً هم حديثو عهدٍ بشركٍ يأتوننا بلحمٍ لا ندري أذكروا اسم اللّه أم لم يذكروه قال‏:‏ سمّوا عليه أنتم وكلوه»‏.‏

مخنوقة الكتابيّ

51 - اتّفق الفقهاء على أنّ مخنوقة الكتابيّ وما ذبح بطريقٍ غير مشروعٍ لا يجوز أكله، لأنّها إذا لم تؤكل من المسلم فمن الكتابيّ أولى، وأمّا ما قاله ابن العربيّ من جواز أكل مخنوقة الكتابيّ فقد ردّوه عليه‏.‏

قال ابن جزيٍّ‏:‏ إذا غاب الكتابيّ على الذّبيحة فإن علمنا أنّهم يذكّون أكلنا، وإن علمنا أنّهم يستحلّون الميتة كنصارى الأندلس، أو شككنا في ذلك لم نأكل ما غابوا عليه، ولا ينبغي للإنسان أن يقصد الشّراء من ذبائح اليهود وينهى المسلمون عن شراء ذلك منهم، وينهى اليهود عن البيع منهم، ومن اشترى منهم فهو رجل سوءٍ ولا يفسخ شراؤه، وقال ابن شعبان‏:‏ أكره قديد الرّوم وجبنهم لما فيه من إنفحة الميتة‏.‏ قال القرافيّ‏:‏ وكراهيته محمولة على التّحريم لثبوت أكلهم الميتة، وأنّهم يخنقون البهائم ويضربونها حتّى تموت‏.‏